لكل حقل من حقول الحياة صناعة، يلزم القبض على مفاتيحها من أجل التمكن منها، والنجاح بها وتسويقها. مثل حقول الطب والهندسة، والفن والأدب، وحتى الحرب والإرهاب وغيرها من حقول الحياة، الإيجابية منها والسلبية، سواء تلك التي تفيد البشر وتجعل حياتهم أكثر يسرا وسهولة، أم تلك التي تضرهم وتدمرهم وتجعل حياتهم أكثر تعقيداً وصعوبة. ولكل حقل أو فن في الحياة صناعته الخاصة به، التي يجب أن تتبع من أجل إتقانها والتمكن منها وإنتاج ممارسيها ومتلقيها في نفس الوقت. الإنسان هو مفتاح كل صنعة، فهي منه وله وبواسطته، ومن أجله. وعليه ففهم الإنسان ومكوناته الروحية والغرائزية هي سر ومفتاح فهم أي صنعة والتمكن منها.
الغريزة هي التي تجعل حياة الإنسان تستمر، والروح هي التي تجعل حياته تسمو وتتعالى فوق غرائزه المتعلقة بماديات الحياة. الفرق بين الإنسان والحيوان أن الإنسان يحتاج إلى الغرائز والروح بنفس الوقت، حيث هو مكلف بإعمار الأرض؛ أما الحيوان فهو ليس بحاجة لأكثر من غرائزه ليعيش؛ حيث هو ليس بمكلف.
الله سبحانه وتعالى خلق آدم من طين؛ أي من مادة، ولذلك توقع الملائكة، بأنه سيكون حيوانا مثل غيره من الحيوانات، يسفك الدماء ويخرب الأرض، من أجل إشباع وإرضاء غرائزه. ولكن الله سبحانه وتعالى أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ والعلم الذي يعلمه الله ولم تعلمه الملائكة حينها هي الروح؛ التي تهذب المخلوق وتعده للتكليف. ولذلك نفخ الله سبحانه وتعالى من روحه في جسد آدم المادي؛ ولذلك سجدت له الملائكة تقديرا، لكمال خلقه، المتوازن بين الروح والغريزة، وهي التي ستعمر الحياة بشكل متوازن، وتحافظ عليها وتسمو بها، وهذا الغرض الإلهي من خلق الإنسان، وهو إعمار الأرض والسمو بالحياة عليها.
أي لا تكتمل حياة الإنسان، وتصبح سوية، إلا بوجود مغذيات للروح جنبا إلى جنب مع مغذيات الجسد، من سكن وملبس ومأكل ومشرب وتكاثر وغيرها. حيث لا تكتمل فائدة وجود ناطحة السحاب، إذا لم يحط بها، دار عبادة، ومتحف، ودار سينما ومسرح؛ حتى تخلق إنسانا متحضرا ومتوازنا. إن ناطحة السحاب وحدها، برغم كونها منجزا إنسانيا عظيما لكنها تصبح منجزا إسمنتيا يخلق إنسانا إسمنتي المشاعر، تجاه نفسه والآخرين، تعلي من غرائزه على حساب روحانياته. إذاً فالأديان والفلسفات والآداب والفنون الجميلة هي مصادر روحانيات الإنسان والتي تسمو به، عن ماديات الحياة. الحيوان لا يبدع، كونه لا يملك روحا فعالة؛ وإنما غرائز طاغية، يلهث خلف إشباعها بشتى الطرق والوسائل، وتكون هي همه وتتمحور حولها حياته.
إذاً فصناعة الإرهاب تهدف إلى تحويل الإنسان من إنسان مكلف إلى حيوان متوحش مرعب ومدمر، وذلك بتفريغه من الروحانيات، وحشوه بالغرائز؛ ليتم استخدامه وسيلة قتل وذبح من أجل تحقيق مشروع سياسي ما؛ وهذا ما كانت تخشاه الملائكة من خلق آدم. وعملية تفريغ الروح من الإنسان، وحشوه بالغريزة، ليست صعبة ولا مكلفة كما يعتقد البعض. فقط، عن طريق تحويل الإنسان إلى حيوان، وذلك بتفريغه من الروحانيات، وتعبئته بحب الملذات المستجيبة لشبقه الغرائزي الضاغط عليه، خاصة في صباه وشبابه.
الدين هو أسمى مصدر من مصادر الروحانيات، وخلق توازن بين الروح والغريزة عند الإنسان؛ ليكون مصدرا لا تكليفا فقط، ولكن حتى تشريف. حيث التشريف حظي به الإنسان قبل التكليف، حين نفخ الله فيه من روحه وسجدت له الملائكة. فعندما يتم تحويل الدين إلى مصدر إلهام وجذب للشباب للتدمير والقتل باسمه؛ هنا تتم شرعنة التوحش والتحيون، باسم الدين. وهنا تكمن الخطورة، وذلك بشحذ الغرائز دينيا والتمحور حولها، وجعلها هدفه ومبتغاه؛ مما يلغي الروحانيات لديه ويعزز من سطوة غرائزه عليه.
وعلى هذا الأساس فالإرهابيون الذين غادروا إنسانيتهم الطبيعية لحيوانيتهم المكتسبة، يتلذذون بتفجير دور العبادة بمن فيها، وتدمير المتاحف وحرق المسارح ودور السينما وتحريم الموسيقى وتجريم الإبداع. وهذا نتيجة التفريغ الروحي للإنسان، وتركه يتعايش مع المطلب الغرائزي لديه، والذي يتضخم ويحوله إلى إنسان بدائي مفترس، لا يقيم لمصادر الروحانيات وزنا ولا قيمة، بل يحاربها، بحجة أنها كفر وشرك! ومثلما فرغ صانع الإرهاب الحياة من روحانياتها الجميلة واعتبرها جرما وشركا؛ سحب كذلك مبدأ تفريغ الروح من الإنسان، في الآخرة، أي في الجنة، وجعل منها نعيما لمزيد من تلبية الغرائز الضاغطة وملذاتها. إذاً فتفريغ الروح من الجسد، والذي ينسحب بدوره لتفريغ الحياة من الروح، يخلق مخلوقات شبه آدمية، تلهث خلف إشباع غرائزها ولو عن طريق الأخروي غير المضمون.
الفراغ الروحي هو نتيجة التفريغ الروحي من الحياة، وملؤها بالمتواجد الغرائزي. أنت تذبح الحيوان لتشبع، كونه لا يملك روحا، أي هو شيء، شيء لا غير، برغم كونه يتحرك ويتنفس. وكذلك الإرهابي عندما يذبح إنسانا فهو يذبحه، لكونه تحول بالنسبة له إلى لا شيء، مجرد من الروح، إلى شيء يتحرك؛ من أجل الإشباع الغرائزي الأخروي. قد تكون في مجتمع مشبع بالروحانيات الدينية والفلسفية والفنية والأدبية، ولكن معتقدك الآيديولوجي يعتبر الروحانيات كفرا وشركا؛ فيخلق هذا منك مخلوقا متوحشا يبحث عن هدم مصادر الروحانيات والقضاء عليها. إي الإرهابي القادم من مجتمعات مليئة بالروحانيات، لا يعني هذا تأثيرها عليه، بل العكس، العزم على محاربتها وتدميرها وجزر من يرتادها.
كره الآخر، بالنسبة لصانع الإرهاب، ليس فقط لكونه آخر مغايرا؛ ولكن لكونه يستفز غرائزه، ويعري خلوه من الروحانيات. فكل ذي روحانية جميلة سواء كانت دينية أم فلسفية أم فنية أم أدبية، هو عدو مستفز لصانع الإرهاب. وعليه فكل مصدر من مصادر وتغذية الروحانيات يعد هدفا تدميريا للإرهابي المفرغ من روحه، والمحشو حشوا وتكدسا بغرائزه. وهكذا فلا يستطيع كهان صناعة الإرهاب محاربة العقيدة الروحية إلا عن طريق العقيدة الغرائزية؛ والتي يجندون من خلالها إرهابيين جددا بعد آخرين.
إذاً فالعلة تكمن في كون العبادة بلا روح، لتصبح في محاربة الروح ذاتها، والتي فرضت العبادة من أجلها. وعليه يتم تفريغ العبادة من الروح، حيث يتسنى استخدامها وسيلة لإشباع الغرائز، إن لم يكن في الدنيا، فضمانا في الآخرة. إذاً فحتى الدين الذي هو مصدر أساسي من مصادر الروحانيات، عندما يتم تفريغه من الروحانيات، ويتحول إلى طقوس للهيام بطلب مشبعات الغرائز، يتحول إلى آلة ساحقة للروح، وعليه يتم تبرير القتل والجزر والنهب والسلب، من أجل إرضاء الحشو الغرائزي للإنسان الذي تحيون أو تمت حيونته من أجلها.
فعندما تستهدف شابا يافعا حدثا، في عملية تفريغه من الروحانيات وتحريضه على كرهها، ومحاربتها، وحصاره بالمحرمات، وكره الآخر الروحاني، وحشوه بحب إشباع الغرائز المكبوتة لديه، والمهيمنة جدا على خياله كون غرائزه في أوج اشتعالها وتوقدها، وتفرغه من الروحانيات التي لم تنم وتنضج لديه بعد؛ هنا يمكنك وبظرف 6 أشهر أو أقل، أن تصنع منه إرهابيا على أتم استعداد لتفجير نفسه ولو كان داخل الحرم الشريف، وبين الركع السجد؛ وهو يهلل ويكبر وينشد بلقاء الحور العين.