هناك لَبْس كبير في متابعة الأحداث والتطورات الاستراتيجية التي تعيشها منطقتنا، وذلك يعكس مدى تراجع النخبة العربية التي ما زالت تُسقِط متابعتها الإخبارية على الأحداث. وقلّما تجد متحدّثا استراتيجيا بالمعنى الحقيقي يستطيع أن يقدِّم شرحاً موضوعياً للخطوات الكبيرة التي تقوم بها القيادات في هذه الظروف الدقيقة والاستثنائية. وهنا لا بدّ من الثناء على العديد من الباحثين الاستراتيجيين السعوديين والخليجيّين، لما يقدّمونه من شرح للخطوات الاستراتيجية للتحالف العربي والإسلامي الذي تقوده السعودية.

تابعت في اليومين الماضيين التعليقات والمقالات والبرامج التلفزيونية التي علّقت على زيارة الرئيس التركي إلى المملكة العربية السعودية واجتماعاته مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، والتي جاء في نتائجها الإعلان عن لجنة التنسيق الاستراتيجية بين المملكة وتركيا. ومعظم هذه التحليلات قاربت الإعلان وعلاقته بالنزاع في سورية والعراق واليمن، وفي أحسن الأحوال الحديث على أنّه ردّ على إيران وروسيا، وذهب البعض إلى الحديث عن الفراغ الذي أحدثه الانكفاء الأميركي.

هناك تطور كبير أحدثته قيادة المملكة العربية السعودية في تصدّيها لملء الخواء الاستراتيجي العربي، والذي كان السبب في الخرق الكبير لدولنا ومجتمعاتنا من قبل إيران، وبتغاض دولي مريب، وذلك منذ العام 2003 مع احتلال العراق وتقديمه هدية علنية لإيران التي استخدمت النزعات المذهبية بين أبناء الوطن الواحد والأمّة الواحدة والدين الواحد، وحملها راية فلسطين وما أحدثته من انقسام غير مسبوق بين أبناء الشعب الفلسطيني الذي نسي قضيته لينشغل بنزاعاته الداخلية. ولا داعي للشرح الكثير في هذه الموضوعات لأن نتائجها الكارثية نشاهدها بوضوح على الشعب العراقي والشعب اليمني والسوري واللبناني والفلسطيني. وقد تأخّر العرب كثيراً كثيراً في التصدي لذلك الخرق حتى أصبح واقعاً مؤلمًا وخواءً مفجعا. فكانت عاصفة الحزم بقيادة السعودية صادمة للشعوب العربية قبل الآخرين، لأن التحالف العربي في عاصفة الحزم كان أول خطوة استراتيجية تكاملية حقيقية منذ تأسيس جامعة الدول العربية قبل 70 عاماً.

لا أستطيع أن أكتب اليوم مقالاً يكون أقلّ بكثير من أي نشرة أخبار سمعها القرّاء قبل قليل، إذ إن وظيفة المقال هي التعمق في الأحداث وتحليلها وفكّ رموزها وتحديد مساراتها، لأنّ الإعلام المضاد يستخدم ماكينة متمرّسة، وهو في حالة دفاع قصوى بعد صدمة عاصفة الحزم والتحالفات العربية والإسلامية التي تقودها السعودية، لأن إيران كانت مستكينة على الخواء الاستراتيجي العربي والتغاضي الأميركي، وهي تعرف أنها لم تخض أي معركة في المنطقة لتحقق انتصارات، بل تقدّمت وتوسّعت دون رادع من هنا أو هناك. ولذلك كانت خيبتها في العراق كبيرة. فالعراق دولة الجوار الإيراني ولها مكانتها التاريخية ومعها ثروات العراق البشرية والمادية، ولكن رغم ذلك ضاع العراق من يدها خلال 10 ساعات على يد تنظيم إرهابي، مما استدعى قيام تحالف دولي عربي بقيادة أميركا من أجل استعادة العراق بحرب قد تدوم سنوات بعد أن ضاع العراق من بين أيدي إيران خلال ساعات.

توقفت طويلاً أمام الرسالة التي وجهها الشيخ محمد بن زايد ولي عهد الإمارات العربية المتحدة. وكانت هذه هي المرة الأولى بالنسبة لي التي أتوقف فيها عند صوت محمد بن زايد إذ تعوّدت متابعته عبر اجتماعاته وتحرّكاته الدقيقة وإنجازاته وامتداداته. ولم يكن سماعي لحديث ولي العهد الإماراتي على خارطة متابعاتي، رغم أن الشخصية بعينها في مقدمة اهتماماتي.

إن الأهمية الاستراتيجية لحديث الشيخ محمد جعلتني أنتبه إلى الخواء الاستراتيجي لدى الإعلام: أوّلاً في توقيت الحديث، وهو بالتزامن مع زيارة إردوغان إلى المملكة، ثانياً في طبيعة الحديث أي مع مجلس إماراتي رفيع وفي الهواء الطلق أي اجتماع عائلي وعلني، أمّا الأهم فهو في العبارات التي اختيرت من الحديث لتُوزَّع على الإعلام، وهي في غاية الدقة والذكاء. قال محمد بن زايد إن "التدخل في اليمن كان في الوقت المناسب، أي أنّه مُحكَم. ثم أكّد أكثر من مرّة على أهمية قيادة المملكة للتحالف العربي والإسلامي". كان حديث ولي العهد الإماراتي حدثاً تكامليّاً استراتيجياً في مكانه وزمانه وطبيعته وتوقيته ومضمونه وأبعاده، وكلّ ذلك في خبر متلفز لا يتجاوز الدقيقتين.

يستحق حديث الشيخ محمد بن زايد أن يُشرَح للمواطن العربي الذي بات من الضروري أن يتحول إلى مواطن استراتيجي ليواكب قيادته في تحدياتها ويتحمل مسؤولياته في الحفاظ على استقرار مجتمعاته، وخصوصا في هذه الظروف حيث الشواهد التدميرية تحيط بِنَا من كل اتجاه. وهنا لا بدّ من مواكبة المراكز البحثية للإعلام الفضائي العربي، لأنّه شئنا أم أبينا يشكّل الوعي اليومي للمواطن العربي. وأنا أثق كثيرا بالمراكز البحثية الخليجية، وهي قادرة على تغطية الحاجات المستجدة للإعلام العربي في مواكبته للمواجهة الكبيرة التي تقودها دول التحالف العربي بقيادة السعودية، في الأمن والسياسة والاقتصاد والفكر. وهي ترمي إلى إعادة الاستقرار والأمل للمنطقة والشعوب العربية والإسلامية.

وهنا يستحق الشيخ محمد بن زايد أن يعرف أن الرسالة وصلت وفي الوقت المناسب.