قبل 10 أشهر فقط من شتاء الشاه الزمهرير تحدث كارتر أمام العالم وهو يصافح ويرحب بضيفه شاه إيران بما نصه: "تعد إيران بفعل القيادة الحكيمة للشاه جزيرة مستقرة في واحدة من أكثر المناطق اضطرابا في العالم"، وبعد كثير من النصائح الغربية والداخلية للشاه بالإصلاح السياسي الحقيقي رفض كل ذلك حتى تحدث إلى الصحفيين في يناير 1979 وهو يغادر مطار طهران عندما عصفت به ثورة الشعب وقال لهم إنه ذاهب إلى المشتى في أسوان، فلم يعد الشاه ولا الدفء إلى العلاقات الغربية الإيرانية، خاصة بعد حصار السفارة الأميركية في طهران 1980 وما تبعه من توترات، وكان حسن روحاني الرئيس الحالي أحد المفاوضين بشأن الرهائن حينها، وتكررت التوترات، ويستثنى منها الفترات لبعض الدعم العسكري الأميركي لإبقاء التوازن في حرب إيران والعراق والذي اكتشفه صدام في أواخر الحرب العراقية الإيرانية فأعلن إيقاف الحرب، ونشأ شعار أساسي في إيران منذ البداية وهو أن أميركا "الشيطان الأكبر" وكبر الشعار بعد أن عاد التوتر كاملا بين إيران والغرب في كثير من أحداث المنطقة بعد إصرار طهران على التمدد الإقليمي وتخصيب اليورانيوم والانحياز لمن يقف ضد المواقف الأميركية من الشرق أو حتى من أقصى الغرب في أميركا الجنوبية، ليهدأ بعدها الإيقاع كثيرا ويبدأ الغزل السياسي الأميركي أواخر عهد الرئيس كلينتون عن طريق وزيرة خارجيته التي عملت على تلطيف الأجواء حتى وصل نوع الكلام إلى السجاد والفستق الإيراني، كما أن العملية السياسية التي كان قد تبناها خاتمي الذي تولى السلطة من 1997 إلى 2003 اتخذت أساليب جديدة للتفكير السياسي في إيران خارج المفهوم الجامد لتصدير الثورة فقط، ثم عاد ذلك التفكير الجامد بسبب الفراغ السياسي الإقليمي بعد الاحتلال الأميركي الإيراني المزدوج للعراق عام 2003 كرسه وصول أحمدي نجاد إلى السلطة من 2005 حتى 2013 وبذهابه نشأ نوع من التفكير السياسي المختلف مع شخص روحاني الذي قد يشبه خاتمي من ناحية الثقافة السياسية، فوجه في بداية حكمه نداءات لاتجاهات عدة للغرب وللسعودية وغيرها، ليبين أن مرحلة جديدة قد بدأت تتعلق بواقع السياسة وليس أحلام الثورة، لكن سمعة إيران -أمام العالم-تراجعت كثيرا بوقوفها مع الدكتاتورية ضد قرار الشعب السوري، كسمعة من يفعل ذلك في أي مكان وزمان ودين ومذهب، في الوقت الذي أصبحت أسطوانة تهديدات إسرائيل ضد إيران والعكس تشبه الأسطوانات الأخرى ضد إسرائيل التي لم يبق منها حتى الأغاني البكائية.
وتحدثت الصحافة الأميركية عما سرب إليها من مفاوضات سرية منذ مدة طويلة، سواء في عُمان أو غيرها، ثم اضطر الأوربيون على لسان الرئيس الفرنسي هولاند في نوفمبر 2013 أن يقولوا إنهم مطلعون عليها، وهي في أكثر من بلد، حتى ظهرت المفاوضات في أواخرها أمام الكاميرات وتم التركيز على الاحتياجات الداخلية لإيران وإظهار نوع من حرب تفاوضية لتبرير ما يلحق تلك المشاهد، وتم الاتفاق النهائي وظهر وزير الخارجية الإيراني ظريف وهو يقوم بقفزات الفرح كلاعب كرة، إلا أن كل هذه المشاهد تطرح بعدها كثيرا من الأسئلة عن نتائجها المجتمعية في الفكر الجمعي الإيراني، الذي لأجله كانت تلك القفزات والتمثيليات المبرمجة. خاصة أن النظام الإيراني قمع ثورة وليدة بدأت في 2009 "الحركة الخضراء" وقادها كروبي ومير موسوي وغيرهما والذين أعلنوا للعالم أن جذور الظلم والديكتاتورية ما زالت موجودة مصرحا موسوي "بأن الثورة الإيرانية على الشاه لم تحقق أهدافها"، وتطورت محاولات الثورة وانتشرت خارج طهران والمدن الكبيرة مثل مشهد وشيراز وأصفهان وكرمان وتدخلت قوات الحرس الثوري والباسيج لقمع التظاهرات، وكان تفسير ذلك من النظام أنه استغلال لما تمر به البلاد من اضطرابات اجتماعية بسبب استقلال إيران في قرارها وعداء الغرب للثورة الإسلامية الذي سبب الفقر والعوز، واستطاع الباسيج قمع مقدمات الثورة القوية في ذلك الوقت الذي ما زال النظام الإيراني يرفع أهم شعاراته وهو الموت لأميركا التي يصفها بالشيطان الأكبر، أما وقد صافح النظام "الشيطان الأكبر" ولم يعد "الموت لأحد" من أولوياته فإن المسكنات السياسية هي التي تعمل الآن وعاد الحديث عن نضوج فكرة الاعتراض على 35 عاما من "الثورة المستمرة" التي انتهت بمصافحة الملالي للغرب كمصافحة الشاه!
وبعد كل هذا الأمد فالواقع الداخلي المحبط في كل اتجاه هو دافع التغيير القادم، فإضافة إلى الصراع القادم على منصب مرشد الثورة بسبب المرض الخطير لرأس الهرم خامنئي وفقدان الأمل في من يشاهده الشعب من أركان الثورة فإن الواقع وبحسابات الداخل الإيراني -في عهد أحمدي نجاد فقط- يعطي هذه النتائج: ارتفع التضخم إلى أكثر من 40 % في ظل اقتصاد مريض هو الآخر كما اعترف روحاني بأن الفساد وصل إلى القضاء في بلده، وأنه يخدم المتنفذين، كما أنه يموت شخصان كل ساعة بسبب التلوث حسب تقرير إيراني محلي، لأن إيران أولى بلدان العالم تلوثا حسب تقرير منظمة الصحة العالمية وبدون تقدم صناعي يتناسب معه.
وبحسب تصريحات وزير الخارجية الإيراني، فإن إيران تواجه زيادة هائلة في أعداد المصابين بالإيدز سنوياً تقدر بأكثر من 80 % كل عام. وهي -كغيرها من الدول المحافظة ظاهريا- من أعلى نسب التزايد للمرض في العالم، إضافة إلى الواقع المعيشي والفقر والطبقية المريعة التي لا يتجاهلها أصحاب القرار في طهران ولا حل لها في المدى المنظور.
وفي كتابها "أشياء كنت ساكتة عنها" للإيرانية آذر نفيسي -وهي كاتبة في نيويورك تايمز وأستاذة جامعية وابنة لمحافظ سابق لطهران، عاصرت الثورة وتحدثت عن طغيان باسم الدين فاق طغيان الشاه- تقول: إن الثورة وقعت في فخ رجال الدين وبدأت عبودية أخطر من سابقتها تحت غطاء اللحوم المسمومة التي من يمسها بكلمة يقع عليه سخط الله، كما يستغفل بذلك العامة إلى درجة مضحكة عن امرأة انتقدت الخميني فقفزت عليها قطة وقتلتها انتقاما للإمام! والتحدي الأكبر في طهران هو تحد داخلي حيث النظام الثيوقراطي الديني صاحب النفوذ كان يعيش على فكرة التنوير والحقوق للأقليات والعدالة والتطوير في الفكر الديني وهذا ما لم يتحقق. كما أن كل ما ترسخ في الحس والشخصية الإيرانية من أن مفهوم الاستقلال التام وعدم الخضوع للغرب وروح الثورة وقيمها في مرحلة مراجعة عاصفة في العقل الإيراني، الذي لم يعد الحسم فيه للنخبة، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى طرح الأسئلة المؤلمة عن أن الثورة قامت ضد النفوذ الغربي وانقياد الشاه لأميركا، لكن نظام الملالي اليوم يعانق أعداء الأمس وكأنه قد أسلم الشيطان الأكبر!
منذ عدة أشهر وفي مقابلات صحفية من منفاه في فرنسا تحدث أول رئيس إيراني بعد الثورة -الحسن بني صدر- عن الثورات الثلاث السابقة في إيران، وقال إنها تشكل قناعات ثورة جديدة عند الإيرانيين وأصبح لها عقل جمعي مكتمل.
وتبقى النتيجة أنه إذا لم تحدُث من الملالي "بروسترويكا" وقرارات إصلاح عميقة تطيح بالكثير منهم؛ فإن المصافحات والمديح الغربي لن يجديا نفعا، فكارتر امتدح وعانق الشاه، ثم هبت رياح الثورة.