رفع رأسه مقطبا حاجبيه، وفي داخله تفجر غضب يكفي أمة بأسرها ليقول: "إخوتنا في الدين قرروا تحويلنا إلى أتراك، وأنا على استعداد للقتال مع الكفار، مع العفاريت الزرق، لاستقلال أمة العرب، نموت ولتكن جماجمنا أساسا لاستقلال العرب".
جاءت هذه الجملة الملحمية على لسان أحد أبطال الدراما التاريخية "إخوة التراب"، والتي عرضت على شاشاتنا العربية في تسعينات القرن الماضي، وأذكر كم أثارت جدلا واسعا في ذلك الوقت، وتدخلت أنقرة شخصيا لمنع عرضها، بسبب محاكاتها نهايات الدولة العثمانية، وكيف كان العرب حينها يعيشون استعبادا عثمانيا باسم الدين، لتصادر أموالهم وأرزاقهم، وليتم الزج بأبنائهم في حروب عبثية لا طائل منها، انتهت بتنازل "رجل أوروبا المريض" عن تركته على طبق من ذهب لدول الاستعمار التي جاءت لاحقا لتجهز على ما تبقى من أمة العرب.
لا أدري لماذا شعرت أن الحكومة العراقية تحاول استعادة أمجاد الثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية، عبر تصعيدها غير المبرر لمسألة التوغل التركي داخل الأراضي العراقية، ورغم انسحاب تلك القوات واكتفائها بالوجود داخل معسكر "بعشيقة" الحدودي المتفق عليه مسبقا بين الجانبين.
ما زلنا نسمع من بعض المسؤولين العراقيين طبلا وزمرا حول سيادة العراق وشرعيته وعروبته المهددة باستعمار تركي جديد.
عجبا؛ كيف تذكرت الحكومة العراقية فجأة مبدأ السيادة المنتهكة والعروبة المسلوبة في الحالة التركية، وهم يتغاضون عنها تماما في نظيرتها الإيرانية على مدى سنوات؟
كيف جرح بضع عشرات من الجنود الأتراك مشاعر الكرامة العربية لدى المسؤولين العراقيين، فيما لم يستفز التدخل الإيراني والتحكم في أدق مفاصل الدولة غيرة هؤلاء المسؤولين وعروبتهم المزعومة؟!
لا أوافق حتما على التدخل التركي في السيادة العراقية، ولا على أي تدخل خارجي في شأن أي دولة عربية، ولكن هل يصح النظر بعين الغضب والاستنكار لهذا التوغل مهما كانت مبرراته، فيما يتم تجاهل حادثة اقتحام عشرات الآلاف من الزوار الإيرانيين معبرا حدوديا بين إيران والعراق دون تأشيرات دخول؟ ولا نسمع استنكارا إلا من بعض الأصوات المناوئة للوجود الإيراني في العراق، فيما تواصل طهران اعتبار بلاد الرافدين امتدادا لأراضيها، وحديقة خلفية تمارس داخل حدودها أخبث أشكال الاستعمار في عصرنا الحديث.
مخطئ من يظن أن سياسة التهميش والإقصاء في العراق تمارس ضد السنة فقط، بل هي تمارس ضد الشيعة أيضا، لا سيما أولئك الذين لا يمزجون لغتهم الأم بمفردات فارسية مثلا، أو يجاهرون فخرا بأصولهم العربية متناسين إبداء الولاء للجمهورية الإيرانية، ومنهم من رفع رأسه للتنديد بالتغلغل الفارسي في أدق تفاصيل الحياة العراقية، كما حدث مع الشاعر العراقي أحمد النعيمي وقصيدته التي انتشرت كالنار في الهشيم.
فمشكلة إيران مع العرب كانت وما تزال كمشكلة الأتراك إبان العهد العثماني، هي أزمة صدام قومي وحضاري، قبل أن تكون أزمة دينية أو طائفية.
السيادة مبدأ، والعروبة لا تتجزأ، وقد ارتكب العرب يوما خطأ فادحا عندما ظنوا أن بريطانيا وفرنسا تريدان مصلحتهم، وتعملان على تحريرهم من الأغلال التركية، ليجدوا أنفسهم بعد ذلك داخل معتقلات الاستعمار، مقطعي الجذور والأوصال.
واليوم يكرر العرب خطأهم الأزلي بعد أن أضاعوا وحدتهم، وحولوا أرضهم مجددا إلى ساحة لمعركة كونية، تستقطب شياطين الجن والإنس لتصفية الحسابات التاريخية، إلا أن فاتورة حساباتهم تلك تسدد دائما وأبدا من دماء الأمة العربية التي ما انفكت تروي هذه الأرض، لتثمر أحقادا بين إخوة جمعهم التراب وفرقتهم المؤامرات والمصالح.