إذا كان الفقة لغةً بمعنى الفهم فإن هذا الزمن يحتاج إلى فاهمين ذوي فطنة وحسن إدراك أكثر من حاجته إلى فقهاء بالمعنى الاصطلاحي الكلاسيكي، فما زلت أذكر ذلك المقال الفقهي الطويل الذي تجاوز الصفحات العشر عن (بيت مال المسلمين)، كتبه من حسنت نيته وقصرت بصيرته عن فقه/فهم الواقع الحالي، لتراه في مبحثه يمرر رؤاه البسيطة عن نفقات بيت المال، وكيف يتم المحافظة عليه، كموعظة يوجهها بمحبة وهدوء، متناسياً أن كامل مبحثه وشروحاته الطويلة وتخريجاته الأطول، قد تجاوزها التاريخ، فسلة العملات العالمية تحتاج إلى دراسة متخصصة للحديث عنها، وسوق البورصة العالمي يحتاج إلى دراسة أخرى، ودهاليز سعر صرف ورق البنكنوت الخاص بكل دولة تحتاج إلى دراسات أخرى، ونظام مؤسسة النقد أو البنك المركزي لكل دولة وعلاقاته الخارجية لهما متخصصون، وصندوق النقد الدولي وعلائقه بكل دولة لهما قضاياهما أيضاً، عدا الالتزامات والاتفاقيات الدولية التي توقعها كل دولة للمشاركة في منظمات التبادل التجاري وغيرها كثير، مما أصبح له كُتَّاب ومحللون إعلاميون متخصصون، وهو ما يزال يظن أن مبحثه (التراثي) في (بيت المال) قد استغرق فيه كل مشاكل الدولة الحديثة، وأن تخريجاته فيها دليل إرشادي لأي وزير مالية في هذا العصر للخروج من الدين العام أو مشاكل التضخم.

التخريج الحقيقي يكمن في وعي الزمن بضرورات تفعيل الشفافية وفق معايير حديثة من أهمها مثلاً (اشتراط إقرار ذمة مالية) مع تفعيل الأنظمة الحديثة مراقبة ومعاقبة، بدلاً من تخريجات تصب في نهايتها إلى مجرد ضوابط وعظية خارج التاريخ، يستطيع أن يدعي أحدهم فيها أنه مسحور وعليه جن ليتخلص من جريمة اختلاسه بعد أن يقرأ عليه بعض الرقاة وينفث آخرون ليشهدوا بعد ذلك على صدق قوله وأن الجني هو المختلس والمرتشي!؟!

ما زال الإرث الخاص (بأسلمة العلوم) له آثاره على عقول أبنائنا، ويكفي أن تتأمل كثيراً من رسائل الماجستير والدكتوراه وعناوينها لتعطيك الواقع المر لبعض المخرجات (الأكاديمية) التي لم تتجاوز عقلية (الكتاتيب)، ولا زالت باكستان عبر ابنها برويز أمير علي بيود في كتابه القيم جداً (الإسلام والعلم.. الأصولية الدينية ومعركة العقلانية) تعترف أن حركة أسلمة العلوم التي اقتحمت جامعاتها هي التي صرفت أبحاثهم الحقيقية باتجاه أبحاث (الإعجاز العلمي) التي لم تضف للمخترعات الحديثة والاكتشافات العلمية ما يستحق أي سبق علمي معترف به عالمياً، لنرى الهند وقد تجاوزت باكستان بمراحل في هذا المضمار بما لا يمكن مقارنته، ولتبقى باكستان العزيزة على قلوبنا في مكان غير منافس للمستقبل الهندي الذي بدأ العالم يلاحظه عن كثب، وهذا طبيعي جداً عندما تتحول مراكز الأبحاث وكليات العلوم الدقيقة إلى مراكز تأويل وتفسير قرآني، لإسقاط الآيات والأحاديث على آخر المخترعات والإنجازات الحديثة، ليصبح الاكتشاف العلمي مجرد لعبة تخريج لغوي.

ملاحظة أخيرة: مصطلح (المعهد العلمي) ممثلاً في كل منطقة من مناطق المملكة منذ عقود طويلة، لو تمت ترجمته بشكل تلقائي إلى اللغة الإنجليزية فما هي الدلالات والمضامين العميقة والباهرة التي ستحملها الترجمة الإنجليزية لهذا المسمى (معهد علمي) الموجود في كل محافظة تقريباً؟! وما هي الحقيقة على الأرض في مخرجات هذه المعاهد؟! علماً بأن كل منطقة من مناطق الجزيرة العربية كان لها فقهاؤها المعتبرون قبل الدولة السعودية وبعدها، دون الحاجة لتخريج هذا الكم الهائل من الطلبة الباحثين أصلاً عن لقمة العيش، فمحافظة رجال ألمع مثلاً كما يحكي لنا الأجداد قبل ما يزيد على 100 عام عرفت العلامة أحمد بن عبدالخالق الحفظي مرجعاً لعموم عسير، وزين العابدين الحفظي مرجعاً فقهياً لها، وكذلك آل الزميلي في سراة عسير، ومثلهم كثير من البيوتات العريقة في كل تجمع قروي في الجنوب وغيره، فكيف بأم القرى (مكة المكرمة) والتي ليس هنا محل الاسترسال في علمائها كمرجع لعموم الجزيرة العربية، لكن الإشارة إلى حرص الناس على وجود الفقيه بينهم كفطرة في كل مسلم وفي كل بقعة، يقوم بها بعضهم ممن يجد في نفسه الاستعداد الفطري ويجد فيه الناس القبول والرضا، دون الحاجة إلى تكريس الحصول على لقمة العيش عبر التعليم الديني الذي يؤدي التوسع فيه داخل المجتمع إلى تضخم فئة لا تملك مهارة فنية أو علمية للمنافسة في سوق العمل، ولا تجد لها موقعاً في الجسد الحكومي يرضيها عبر الوظيفة، فتتجه إلى الفضاء الاجتماعي تتقحمه مستغلة التقدير العام لها، فتسعى إلى فرض رؤى تقسم المجتمع إلى قسمين (الملتزمون بالدين، وغير الملتزمين) (المطوع، والداشر) (أهل الصلاح، وغير الصالحين)، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى المزايدة على إسلام رجالات الدولة، فهذا تغريبي وذاك خارج عن الملة إن سمح بكذا أو منع كذا، بينما الرسول الكريم يقول: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، ويقول نبي الرحمة أيضاً: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)، علماً بأن علماءنا الأوائل ممن ذكرتهم لم يكونوا ينظرون للناس بهذه الحدة والقسوة، بل يقدمون فقههم كخدمة اجتماعية إذا رجع إليهم أحد، يقدرها لهم الناس دون فرض أو ترهيب أو تخويف، فكيف ببعض أهل هذا الزمن وهم يلوون ألسنتهم بمحفوظاتهم الدينية ليُصَفُّوا بها حساباتهم الشخصية، فيستنطقوا آيات الوعيد وأحاديث الترهيب ليجعلوا سبب نزولها خصمهم هذا أو عدوهم ذاك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.