يزدحم مشهدنا السعودي بعدد كبير جدا من الروايات التي تترواح مستوياتها ما بين الضعف والهشاشة وملامسة السطوح دون القدرة على الإبحار في العمق، وما بين متوسط يوغل قليلا لكنه لا يستطيع الغوص سحيقا، فيما تغور طروحات قليلة عميقا لتشّرح وتعري المخفي والمسكوت عنه بطرق جمالية بارعة. ولا يصح في النهاية إلا الصحيح، فالأعمال السطحية والهابطة سرعان ما تموت وتسقط في جب النسيان حتى لو ضجت بفرقعات شهرتها الآفاق، بينما تبقى الأعمال الجيدة وتخلد في النفوس. وتبقى في هذا الازدحام -على تواضع معظمه وانحدار بعضه إلى استخدام الإثارة الفجة والرخيصة- منافع شتى، ويكفينا أنه يحرك الراكد ويثير الأسئلة. ففي ظل توجس شديد يقارب الرهاب من التغيير والذي تمثل المرأة أحد أهم رموزه؛ يعتبر مجرد مقاربة الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الجنسين تحديا جارحا للخصوصية السعودية، حتى لو لم تتعد الرواية الخطوط الحمراء. فيما تكشف كثرة وكثافة المحكي والمسرود عن اضطراب واضطرام في البنية الاجتماعية السعودية وكأن ماردا جبارا يريد الخروج من القمقم.
كثيرا ما يخرج فعل الكتابة السردية من اللاوعي في محاولة للمصالحة بين الذات وتناقضاتها؛ وبين العالم الخارجي بما يحفل به من قسوة وظلم وألم وغربة! وقد يرى السارد/الساردة في الكتابة والبوح وسيلة للتدواي والتشافي من الأوجاع عن طريق تحريرها وإعادة معايشتها على الورق وصولا للانعتاق والتحرر! وهي ليست تعبيرا عن الواقع وحقيقته، بقدر ما هي الواقع وقد تفاعل مع ذات الأديب وخلفيته الثقافية ورؤاه وأوجاعه وأحلامه، فيتولد عن هذا التفاعل حقيقة بديلة تقترب من الواقع ولا تحاكيه.
يقول الكاتب "محمد برادة" لصديقه "محمد شكري" محاولا تحفيزه ليكتب: الكتابة وهم بديل يشكل وسيلة لفهم العالم والناس وهي أيضا تعويض عن حرمان ما. بينما يقول "واسيني الأعرج" الروائي الجزائري المبدع : إننا عندما نكتب نتقاسم مع الناس أوهامنا وهزائمنا الصغيرة، لا ليس هذا فقط، الكتابة التي لا تدخلنا غمار الحلم ليست كتابة!
في رأيي الشخصي؛ الكتابة انفتاح على الحلم ورغبة في برعمته وتخليقه، وهي رغبة في خلق تغيير سواء اعترف الكاتب بذلك أم أنكره. وأرى أن الروائي السعودي كما الروائية السعودية يهجسان بالتغيير؛ وإن كنت أرى أن هذا الهاجس يسكن الروائية السعودية بصورة أكبر كونها الأكثر تضررا من العادات والتقاليد الملتبسة بالدين خاصة فيما يخص الزواج واستخدام المرأة في تعزيز العصبية وخلافه من القضايا الإشكالية في مجتمعنا. وهي إذ تسلط الضوء على صور الظلم والتمييز وقتل الفردانية وسيادة الأبوية القبلية، تروم إدارة مفصل التحول الاجتماعي إلى حيث التحرر من ربقة قيود أحكمت بخناقها على أفراد المجتمع بشقيه الأنثوي والذكوري.
لعلّ الكتابة وهم بديل كما يقول "محمد برادة"، ولعلها مشروع فضيحة كما يقول "نزار قباني"؛ فالكاتب يطرح جزءا من ذاته وأفكاره ورؤاه وهمومه وهزائمه كمادة للعرض والفرجة؛ ولكنها تبقى قدرا لا يمكن الفرار منه وحلما واعدا يلوح للأجيال القادمة بثمار القطاف.
أودعكم أعزائي القراء والقارئات لأغيب في إجازة يلتقط فيها قلمي أنفاسه؛ وإلى لقاء قريب إن شاء الله.