لن يكون جديدا إذا قلنا: إن الجامعات السعودية تعاني كثيرا في مسيرتها التعليمية الأكاديمية والثقافية، والوزير الحالي: د. أحمد العيسى واحد من الذين كتبوا حول مشكلات التعليم العالي، ولذلك فهو يعي الأزمة التي تعانيها، ولعل واحدة من الإشكالات الجديدة التي نشأت خلال العامين الماضيين خلو إدارة الجامعة من مدير لها في عدد من الجامعات، ويديرها بعض المكلفين الذين ربما أماتوا حراك الجامعات السعودية على المستوى الأكاديمي والوظيفي والأنشطة الفاعلة والحراك الثقافي والعلمي، الذي كان من المفترض أن الجامعات تهتم فيه أكثر من غيره.
في عدد من دول العالم كانت الجامعات ولا تزال أحد أهم روافد الفكر الفلسفي والبحث العلمي والحراك الثقافي، يتولد من داخلها كثير من التوجهات والأفكار، وتتشكل الرؤية الفكرية لدى الطالب من خلالها، بل إنها تصهر كثيرا من القيم الثقافية التي تتحول إلى حراك ثقافي على مستوى المجتمع، بل يصل الأمر إلى أن بعض الجامعات كانت هي محور المدن الغربية كمدينة سياتل في أميركا مثلا، فهذه المدينة كانت الجامعة تشكل محور أحداثها، ومحور القيم المجتمعية فيها، حتى كان تاريخ المدينة هو تاريخ الجامعة.
وعلى أساس أن الجامعات تشكل المكون الثقافي لدى الشباب؛ فإن الأهمية كانت كبيرة في تفعيل الرؤى الشبابية بحيث غدا شباب الجامعات يشكلون محور الاهتمام، بل يصل الأمر أحيانا إلى أن طلاب الجامعات هم من قادوا التغيير في بعض الأحيان في مجتمعاتهم، وصنعوا بعض الثورات الفكرية والسياسية.
وبالمقارنة مع وضع الجامعات السعودية نجد أن تأثيرها الفكري والثقافي لا يشكل أي قيمة معرفية لدى الأجيال الجديدة، ولا حتى الأجيال القديمة؛ إذ ينصب الاهتمام الدراسي في إعطاء شهادة جامعية لا غير، كما أن غالبية ما يمنح للطلاب من مناهج لا يمكن لها أن تعطي الطالب أي قدرة على البحث أو تكوين رؤية ثقافية يمكن له أن يحملها لمواجهة الحياة خارج أسوار الجامعة، ولا أتحدث هنا فقط عن مرحلة البكالوريوس؛ بل يتعدى ذلك إلى الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه، ولكم أن تستعرضوا غالبية الرسائل العلمية بشكل سريع، لتكتشفوا حجم الكارثة الثقافية التي ندفع بها شبابنا إلى الحياة العلمية والثقافية.
الجامعات السعودية بوصفها أحد أهم القطاعات الحكومية التي تختص بدراسة المجتمع، أو تتفاعل معه من ناحية المدخلات والمخرجات التعليمية والوظيفية، كانت خارج إشكالات الجدل الفكري والثقافي والاجتماعي في معظم ما تقدمه، وبقي في إطار الشغل الأكاديمي الذي يهتم في قضايا نخبوية جدا، وبعضها خارج المنظومة الاجتماعية، إلا من قبيل اجتهادات فردية من بعض المثقفين الذين لهم حراكهم الذي سوف يكون حتى لو كانوا خارج هذه الجامعات، أما في حقيقتها فالجامعات لديها قصورها العلمي الحاد تجاه الواقع، أو حتى تجاه المفهوم العلمي لكثير من العلوم؛ فضلا عن دراسة المجتمع أو التفاعل معه في قضاياه المصيرية؛ ينطبق هذا على المادة العلمية كما ينطبق على الاشتغال الأكاديمي، وعلى أنظمة الجامعات ذاتها، بل يصل أحيانا إلى تغييب المفهوم العلمي للمادة العلمية لهدف غير علمي مطلقا يدخل في إطار الأيديولوجي، أو حتى جوانب شخصية.
كما يصل الأمر في بعض الأحيان إلى تغييب حق الطلاب التساؤلي لمجرد غرور أستاذ المادة أو ربما لقصوره المعرفي أو غير ذلك، إضافة إلى محاصرة الأساتذة الفاعلين فكريا وأكاديميا في الجامعة، ولديهم رؤى تطويرية تجاه المواد العلمية وفق المناهج الحديثة.
وبرأيي أن أول الخطوات التي كان على الجامعات اتخاذها هو تشكيل مجالس الطلاب والمجالس الجامعية بحيث تكون نواة لمؤسسات المجتمع المدني، تعمل على مبدأ الانتخابات لهذه المجالس، وعدم التفرد بالقرارات الجامعية من قبل عدد محدود من المسؤولين في الجامعة، بحيث يمكن انتخاب مدير الجامعة نفسه كل 4 سنوات، ومن ثم يعود هذا المدير إلى عمله الأكاديمي حاله كحال غيره. ما الذي يمنع من انتخاب مديري الجامعات واستبدالهم بغيرهم عن طريق التصويت؟ إن سياسة التعيين لم تعد هي السياسة الفاعلة، بإشراك المواطنين والأكاديميين والطلاب وتفعيل لجان المراقبة من خلال تأسيس ما يمكن أن أسميه: (مؤسسات المجتمع الأكاديمي) على غرار مؤسسات المجتمع المدني!
فاعلية الجامعات هي فاعلية للمجتمع ذاته، فإذا كانت هذه الجامعات ذات حراك حقيقي في داخلها فإن ذلك سينسحب على أبناء المجتمع، ولذلك تصبح أهمية تأسيس المجتمع المدني الأكاديمي من داخلها مضاعفة بالنسبة لغيرها من القطاعات الأخرى؛ لكن الملاحظ أنها تأتي متأخرة كثيرا عن حراك الشارع.
إن أهمية الحراك المدني تكمن في مدى الفاعلية الاجتماعية والثقافية لدى المواطنين، أي أن تكون لأبناء المجتمع مشاركة في القرارات المصيرية، والجامعات هي إحدى أهم الخطوات التي تقود إلى هذه المشاركة بشكل سلمي ومنظم، كونها الجهة التي يخرج منها المجتمع بشبابه إلى كافة القطاعات الأخرى بلا استثناء.