تقف الروايات على ناصية العقل، وهو من يقرر هل تخلّد فيه أم تغادر، وكأنها لم تكن يوما بين اليدين رهينة الزمن لفترة قد تمتد إلى أيام.
أرى أن الروايات التي تستحضر المكان، وتأخذ القارئ لتفاصيله، وتعيّشه به حقبة زمنية وتشعره فيها بمرحلة انتقالية إلى زمن آخر، هي الأعمال الخالدة التي تخلّد اسم الروائي واسم عمله.
في رحلة جوية استغرقت 3 ساعات إلا عشر دقائق، كانت ترافقني رواية "شارع المحاكم" للروائية الإماراتية أسماء الزرعوني.. وأنا أقرأ لم أشعر بأني على متن طائرة تحلق في السماء، بل شعرت بأني أسير في شارع المحاكم..أدخل البيوت وأعيش معهم كل المشاهد.. أجوب الطرقات وأتوقف أمام كل حكاية حب.. أستشرف نهايتها وأتمنى لها الخلود.
شعرت بالمرأة الحاضرة في صورة زوجة وأم وحبيبة وابنة.. كيف عاشت في شارع المحاكم بين اختلاف الطبقات وتنوع المذاهب وتعدد الألوان.. كيف كانت مختلفة من بيت ?خر!! كيف كان تكوين المجتمع مؤثرا في شخصية المرأة الخليجية..
حضور المكان في العمل الأدبي يعتبر وثيقة تاريخية يتيح استمراره في الذاكرة حتى وإن اختفى من الذاكرة..
كثير من الكتّاب، سواء في الرواية أو القصة أو الشعر، يمثل لهم المكان عنصرا مهما في أعمالهم، مما يساعد النتاج الأدبي على انتشارها وحضورها في ذهن القارئ..
يقول نجيب محفوظ: منذ مولدي في حي "سيدنا الحسين" وهذا المكان يسكنني، أشعر بنشوة غريبة وأنا أمر به. والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي..
كذلك الشاعر البردوني حضر المكان في ديوانه "مدينة الغد"، وكان يمثل له حياة كاملة عاشها بكل متناقضاتها..
المكان في رواية "شارع المحاكم" يمثل فترة ما قبل الاتحاد، ما كانت عليه الإمارات قبل عام 1971، حيث رأت الروائية فيه حياة تستحق أن توثق وتمتد لتصل إلى قارئ من الجيل الجديد.
استطاعت أن تشعرنا بالفرق بين ما قبل وبعد الاتحاد، ليس من خلال التطور الذي شهدته الإمارات فحسب، بل أيضا من خلال تغير استمرار الإنسان الإماراتي وتحوله من مستهلك إلى منتج على جميع الأصعدة.. تحوله من قارئ ومتلق إلى كاتب ذي اسم حاضر.. انتقاله من عمق الصحراء إلى وطن المدينة والتطور والرقي.