في هذا المقال أنهي حديثي عن الدكتور أحمد القاضي، رحمه الله، وأتعرض فيه للجانب الشخصي من علاقتي معه، إنني في اللحظة التي كنت قررت فيها أن أكتب عن الدكتور القاضي تذكرت أمرا كان غائبا عني تماما ولا أدري كيف حدث ذلك، فانهمرت الدموع من عيني وأنا في ذهول!!
كيف أنسى ما نسيت؟ كيف أنسانيه الشيطان؟ وبقيت بين دموعي وابتسامتي وحديث النفس للنفس، وتذكرت تلك القصة التي حدثت لي مع الدكتور القاضي قبل أكثر من ربع قرن وكأني معه الساعة أتحدث إليه ويتحدث إليّ، وأسأل نفسي: كيف عرف ذلك الرجل عني في ذلك الزمان ما لم أكن أعرفه عن نفسي بعد، إلا أن يكون من أولئك الذين وصفهم الله في الحديث القدسي "ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته".
إنها قصة حدثت لي مع الدكتور القاضي، رحمه الله، فلا أشك اليوم أنه كان يسمع ويبصر بنور الله عندما كان يحادثني في ذلك الزمان.
واليوم أعود للوراء إلى أوائل الثمانينات لأروي قصتي مع الدكتور القاضي، ففي عام 1982 عندما كنت أدرس الهندسة الصناعية، أكرمني الله برؤيا عجيبة، رأيت نبي الله عيسى، عليه السلام، ينزل من السماء ويجلس على كرسي عرش وعلى رأسه تاج ملك وهو محاط على يمينه بنساء محجبات يرتدين أجمل حجاب بلون أبيض مثل من يلبسنه وهن محرمات في الحج، وعلى يساره رجال وكلهم يلبسون إحراما أبيض ناصع البياض يكاد بياضه يشع نورا، فسألت في المنام: من هؤلاء؟ فقيل لي: هؤلاء دعاة لله. ورأيت على يساره رجلا ملتحيا بلحية بيضاء وعلى وجهه نور يعلوه فسألت: من هذا؟ قالوا لي: هذا اسمه أحمد القاضي، فاستيقظت من منامي ولم أخبر أحدا برؤياي، وتمر الأيام والأسابيع والشهور والرؤية راسخة في عقلي ووجداني ووجه الرجل الذي أسموه لي بأحمد القاضي حي في مخيلتي، ولم أكن آنذاك أعلم عنه شيئا، بل لم أعلم أن هناك شخصا اسمه أحمد القاضي بالفعل، وبعد حوالي ستة أشهر ذهبت إلى أحد المؤتمرات الإسلامية الضخمة في أميركا (مايا) ودخلت إحدى المحاضرات الجماهيرية متأخرا، وما إن استقررت في مكاني ونظرت من بعيد، حتى رأيت ذلك الرجل الذي رأيته في المنام، فسألت من بجانبي: من هذا الرجل؟ فلم يعرفه، قمت من مكاني وجلست في مكان آخر وسألت من بجانبي: من هذا؟ فقال باستغراب: أولا تعرف الدكتور أحمد القاضي؟! في تلك اللحظة وقف شعر رأسي وأصابتني شحنة كهربائية وبقيت مسمرا في مكاني في ذهول.
إنه وربي الذي رأيته في منامي تماما كما رأيته، وانتظرت حتى انتهت المحاضرة فوقفت أنتظر دوري لأحادثه واستمر انتظاري طويلا حتى تنبه لي، فأشار لي أن اقترب وقال لي: إنك تنتظر منذ فترة طويلة. فقلت له إن حديثي يجب ألا يسمعه غيره، فنظر إلى نظرة واحدة وأخذ بيدي وقال لمن حوله أن يسمحوا له بالانصراف وسيكمل إجابة الأسئلة بعد فترة الراحة والغداء.
وأجلسني بجواره وأخذت أروي له الرؤيا وهو مطأطئ رأسه وأذناه معي، وفجأة تنبهت أن مكان نظره في الأرض قد ابتل من كثرة الدموع المنهمرة من عينيه وهو يسمعني، فلما انتهيت رفع رأسه ونظر إليّ ورأيت عينيه وقد امتلأتا بالدموع، وسألني: ماذا تدرس يا بني؟ فقلت: هندسة صناعية. فأردف سائلا: وهل تنوي دراسة الطب؟ فقلت له: أفكر في هذا. ثم سألني: هل فسر لك رؤياك أحد؟ فقلت له: لا. فابتسم وقال: الحمد لله، ثم قال: إن هذه الرؤيا هي لك يا بني في المقام الأول وليست لي. فقلت له: وإنما أنت الذي في الرؤيا! قال لي: إنما أرادك الله أن تأتي لي حتى لا يفسرها لك غيري. ولكن قبل أن أفسر لك الرؤيا سأبوح لك بسر لا يعرفه من أحد إلا نفسي وزوجتي. إنني أحب نبي الله عيسى، عليه السلام، وأحتفظ بكثير من كلامه الذي يتوافق مع الكتاب والسنة، أجمعه وأقرؤه بين حين وآخر، ثم بدأ في تفسير الرؤيا فقال: يا بني لكل نبي معجزاته وجل معجزات نبي الله عيسى، عليه السلام، في الطب.. يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، أما نزول عيسى -عليه السلام- من السماء وجلوسه على عرش وعلى رأسه تاج ملك، فإنك ستشهد إن شاء الله وتسهم في إعادة عز الإسلام في الطب وهيمنته على الأرض بعد أن غاب مئات السنين. هذا هو الجزء الذي يخصك، أما الجزء الذي يخصني فإنني أبقيه لنفسي، وابتسم ابتسامة ملائكية وعيناه ما زالتا تترقرقان بالدموع.
رحمك الله يا دكتور أحمد القاضي، كيف أراك الله من خلال رؤيتي ما كنت أجهله أنا عن نفسي في ذلك الوقت، لولا أنك تسمع وتبصر بنور الله، واليوم عندما أنظر إلى نفسي وما فتح به الله عليّ من توجه نحو المفهوم الشمولي للعلاج والشفاء وربط الدين بالحياة والطب الإسلامي في مقالات ومحاضرات وبرامج مثل (ومحياي)، فإنني أجد لصدى كلماتك لي في ذلك اليوم قبل أكثر من ربع قرن من الزمان من الأثر ما هو أشد وقعا في النفس والعقل والوجدان.
لقد كان الدكتور أحمد القاضي بحق حكيما لا مجرد طبيب، وكان مربيا من طراز فريد، كيف ننسى رجالا مثل القاضي قدموا لنا نموذجا يحتذى وأهدونا عمليا نموذجا يذكرنا بصحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا رهبانا بالليل وفرسانا بالنهار.
ما أروعها من قصة تلك التي تركتها لنا أيها العالم المسلم الجليل الحكيم المجاهد الصابر العامل الدكتور أحمد القاضي، إنها قصة بدأت قبل آلاف السنين وستستمر إلى قيام يوم الدين، قصة واحدة من سلسلة مكونة من حلقات، ولا تستحق حياة إنسان أن تصبح حلقة من حلقاتها إلا أن تكون من أصلها ومعدنها. ترى هل هذا ما عرض عليك يا دكتور القاضي في تلك اللحظة التي ابتسمت فيها وأنت تعبر لي الرؤيا؟ وما عجزت أن أفهمه أنا آنذاك، إنني أكتب سؤالي هذا وأرد عليك بابتسامة مثلها.. نعم إنها كذلك والله أعلم، وإنني وإياك أيها المعلم الجليل ومن رأيت في المنام على موعد قريب إن شاء الله.