من الواضح أن هناك عزوفا كبيرا عن انتخابات المجالس البلدية، بدليل أن نسبة المشاركة في الدورة الأخيرة جاءت متواضعة جدا، بل صادمة، مع أن أي ممارسة ديموقراطية يفترض لها أن تتطور وتكبر مع الوقت، لا أن تتراجع بعد مرور دورتين انتخابيتين فقط، وبفعل الخبرة التراكمية يتكون في العادة لدى الناخبين ثقافة انتخابية تساعدهم على الارتقاء بخياراتهم، والانتقال من الولاء للقبيلة إلى الولاء للوطن، ومن التعصب للحزب إلى التعصب للحق، لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث مع الأسف الشديد، وحتى الذين شاركوا لا يبدو أنهم انطلقوا من قناعات راسخة بأهمية المشاركة في صنع القرار، أو تعويل على المجالس البلدية في إحداث تغيير يذكر، إنما أتت مشاركتهم من باب الفزعة لا أكثر، فتراهم يأتون للتصويت لابن قبيلتهم دون سؤال عن أسباب ترشحه، ولا مؤهله ولا قدراته أو إمكاناته، فضلا عن برنامجه الانتخابي، حتى لكأنهم يتمثلون قول الشاعر:
لا يسألون أخاهُم حين يندُبُهم
في النائبات على ما قال برهانا
لا أكتمكم أني حين شكوت ذلك لبعض الأصدقاء، اعتبروه فلسفة فاشلة وكلاما مثاليا حالما، ثم قالوا: دعك من التحليق في سماء الأوهام، وبدلا من لومك الناس على عزوفهم أو تعصبهم؛ عليك أن تلوم الجهات المشرّعة للانتخابات البلدية، فهي من وضعت شروط الانتخابات وحددت آلياتها وكيفية التصويت للمرشحين، كما أنها من ستختار الأعضاء المعينين في المجلس بالتعاون مع أمناء ورؤساء البلديات، ثم ماذا تنتظر من أعضاء يكون لمدير البلدية دور حاسم في تعيينهم ليقوموا بمراقبة أعمال بلديته واقتراح مشاريعها وتقريرها! وبصراحة لم أجد رداً على هذه التساؤلات، لأن آلية التصويت وحصرها بالصوت الواحد في مجتمعات قبلية من شأنها إذكاء العصبية بأعلى درجاتها، فهي لا تتيح للمنتخبين خيارات أخرى غير التصويت لأبناء قبائلهم، ولو كانت لديهم عدة أصوات لصبت الأصوات المتأخرة في مصلحة مرشحين أكفاء، بعد أن يتخلص المنتخبون من حتميات القبيلة وصلة القرابة، لكنّ آلية الصوت الواحد أوجدت انتخابات مغلقة، دعت المرشحين إلى مخاطبة أبناء قبيلتهم واستثارة حماسهم بالتأكيد على أنهم: (خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح)، إضافة إلى أن الناس وعن تجارب سابقة في عمليات التعيين؛ عودوا أنفسهم ألا يعوّلوا كثيرا على عمليات الاختيار الصادرة عن وزارة الشؤون البلدية حتى لا يصابوا بالصدمة والخيبة، فهي لا تخضع لمعايير واضحة، ولا تدقيق في الاختيار، وكثيرا ما يُحرم أشخاص أكفاء على حساب آخرين لا يملكون الحد الأدنى من أساسات عضو المجلس البلدي، لمجرد أنهم لا يعرفون أشخاصا نافذين كما هو الحال مع أولئك المحظوظين، مع أن لبعضهم جهودا بارزة في خدمة المحافظة أو المنطقة، إلا أن هذه الجهود محجوبة عن أعين إخواننا في وزارة الشؤون البلدية ومن يمثلهم في المحافظات والمناطق، وإنه لا أعمى من الذي لا يريد أن يرى! مع أن الهدف من وجود أعضاء معينين هو ترميم ما قد يعتري الانتخابات البلدية من أخطاء في مراحلها الأولى، بسبب أن الناس قد يختارون لأسباب أخرى لا علاقة لها بالكفاءة والأحقية، خصوصا حين يكون المجتمع قبليا أو مغلقا ومسيطرا عليه من بعض الأحزاب المتطرفة، فيخشى عليه من ظهور قوائم تتم تزكيتها كما حدث في بعض المناطق أثناء الانتخابات البلدية في أوقات سابقة، فلما وصل الأعضاء في تلك القوائم إلى المجلس، تركوا عملهم الأساس، واحترفوا الوعظ حين قاربت فترتهم الانتخابية على الانتهاء!
ولذلك فإن الدولة تحاول جبر هذا النقص بألا يكون المجلس منتخبا بشكل كامل، حتى يصل الناس إلى درجة كافية من الوعي الانتخابي تمكنهم من اختيار كل ممثليهم في المجالس البلدية، ومن المؤسف أن جهات عصفت بهذا الهدف النبيل، واتخذته سبيلا للوجاهة والواسطة ضاربة بالمصلحة الوطنية عرض الحائط، فصارت تأتي بمن تريد وتستبعد من تريد بلا حسيب أو رقيب، حتى إنك لتعجب من أشخاص يتم تعيينهم في المجلس البلدي بطريقة هي أبعد ما تكون عن المنطقية والعدالة والموضوعية، كأن يكون المعيَّن لا علاقة له بالعمل الرقابي، أو أن يكون تاجرا، أو يكون وارثا للتعيين من أبيه، كما حصل في إحدى المحافظات، وكان مثار تندر واستغراب وسخرية، حتى يئس الناس من هكذا ممارسات، مؤثرين الفرجة على الانتخابات من بعيد، وهم يعجبون من أناس طيبين ما زالوا يتعاملون مع هذه الانتخابات البلدية بشكل جاد!