الشعوبية حركة عنصرية ظهرت في نهاية العصر الأموي وبداية العباسي، وازدادت قوة بعد الخلاف بين نجلي هارون الرشيد، الأمين والمأمون، وقد عملت على الحط من مكانة العرب ونشر مثالبهم والنظر بدونية تجاه العرق العربي ولغته وثقافته وتاريخه، وفي المقابل محاولة رفع قدر الفرس (العجم) ونشر مفاخرهم وحضارتهم. يقول الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه الشهير الجذور التاريخية للشعوبية "وقد نشطت الشعوبية في دور عز العرب وفي فترة سيادة الخلافة، فلما تشقق سلطان العرب وتضعضعت الخلافة بالحركات الانفصالية هدأت ثورة الشعوبية وخفت هجماتها. ومن الطبيعي أن تنشط الشعوبية في دور نهضة العرب وتوسع الإسلام، لأنها رأت في هذا التوسع وفي تلك النهضة خطراً على كيانها وإرثها".

وفي كتابه "الحيوان" يصف الجاحظ الشخص الشعوبي بوصف في غاية الدقة حيث يقول: " فإذا أبغض (أي الشعوبي) شيئاً أبغض أهله، وإذا أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة (العربية)، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السلف والقدوة". ولعل العلامة والأديب والفقيه ابن قتيبة، وهو فارسي منصف (ويقال كردي) كان دقيقاً جداً أيضاً في وصف من التحق بالشعوبية وأظهروا كرههم للعرب. ففي كتابه "رسائل البلغاء" يقول ابن قتيبة "ولم أر في الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط. فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون ما لهم وما عليهم ويرون الشرف نسباً ثابتاً". ويضيف: "ومنهم من أقام على خساسة ينافح عن لؤمه ويدعي الشرف للعجم كلها، ليكون من ذوي الشرف ويظهر بغض العرب بتنقصها ويتفرغ مجهوده في مشاتمها وتحريف الكلم في مناقبها وبلسانها نطق وبهممها ألف وبآدابها تسلّح عليها. فإن هو عرف خيراً ستره وأن ظهر حقره وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها وإن سمع سوءاً نشره وإن لم يسمعه نفر عنه وإن لم يجده تخرّصه".

فما أشبه اليوم بالبارحة، فها هم شعوبيو هذا العصر لا يتجاسرون على القدح في الدين صراحة كما فعل أسلافهم، إلا أنهم اقتدوا بهم في النيل من كل شيء عربي بدوافع قومية وشيفونية فجّة، ويتحرون الفرص لبث أحقادهم وسمومهم، إلى درجة أن ينطبق عليهم قول ابن قتيبة "وأما فخره بما ليس له فيه حظ ولا نصيب فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها وأبناء عمالهم وكتابهم وحجابهم وأساورتهم. فأما رجل من عرض العجم وعوامهم لا يعرف له نسب ولا يشهر له أب، فما حظه في سرير كسرى وتاجه وحريره وديباجه وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ولا مظل ولا مأوى. فإن قال لأني من العجم وكسرى من العجم. فمرحباً بالمثل المبتذل: ابن الجار النجار".

مؤخراً، زعم علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني لشؤون القوميات والأقليات الدينية أن "تحرك داعش جاء تلبية لنزعة العرب الرامية إلى التحكم في العالم الإسلامي والتخلص من شعورهم بالدونية تجاه الفرس والأتراك، وأن إيران تعد منطلق كافة الثورات المعادية للظلم، وعندما قتل الإيرانيون شقيق المأمون (الأمين) سحبوا السلطة من العرب إلى الأبد". ويختم يونسي حديثه بالقول "إن تنظيم داعش يسعى لاستعادة الخلافة العربية وليس الإسلامية لذا يرتكب أي جريمة لتحقيق هذه الغاية". كما سبق أن وصف يونسي في تصريح مثير في شهر مارس الماضي بغداد بمثابة عاصمة لإيران فقال "إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي". وبعد ذلك بأيام قليلة جداً، أطلق مستشار خامنئي للشؤون السياسية والدولية ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لمجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني علي أكبر ولايتي تصريحات قومية في الاتجاه ذاته حيث زعم أن "مشاركة إيران في العراق وسورية هي مشاركة للدفاع عن عرقنا القومي (الفارسي) ومصداق ذلك علاقتنا الحالية مع العراق". كما تطرق للعصر الأخميني (الهخامنشي) قبل نحو 2500 سنة، زاعماً بأن البحار الواقعة في جنوب البلاد كانت في السابق تحت سيطرة إيران.

إذا تجاوزنا محاولة يونسي ذر الرماد في العيون وإلصاق داعش الإرهابية بالقومية العربية ووصفها بأداة لاستعادة المجد القومي، وهذا في واقع الأمر باطل من عدة وجوه، وليس هذا المقال في سياق تفنيدها، فإن هذا العزف الإيراني على الوتر القومي الشعوبي يسير في اتجاه موازٍ لنزعة تأجيج الصراعات الطائفية في المنطقة التي يعمل النظام الإيراني على إشعالها وتوظيفها لخدمة مشاريعه السياسية في المنطقة ومخططاته نحو الهيمنة والتوسع وبسط النفوذ منذ ثورة 1979، والأعجب أن تصدر هذه التصريحات من شخصية مسؤولة عن ملف الأقليات في إيران، ومن بينهم بطبيعة الحال الشعب العربي الأحوازي الشقيق، فكيف سيخرج يونسي من عنصريته هذه؟

إن من لم يجد ما يفخر به في حاضره ويشعر بأن الفشل يحاصره من كل جانب، ينزع نحو النبش في الماضي في محاولة للعثور على ما يرضي ولو القليل من غروره المصطنع. محاولات إيران لبعثرة أوراق التاريخ لهذا الهدف السطحي، سيضع، أولاً، المزيد من الأحجار في طريقها ويعمق الهوة ولا يجسّرها مع دول الجوار، وثانيا، يفضح النزعة العنصرية للنظام أمام العالم.

وإذا كان هناك من وصف علّان الورّاق، من شعوبي القرن الثالث الهجري، بعلّان الشعوبي (الكبير)، فيمكننا إطلاق ذلك على يونسي أيضاً ليصبح بذلك "الشعوبي الصغير".