إسقاط طائرة السوخوي الروسية، من قبل تركيا، ربما لا يعني موقع سقوطه الكثير، بالنسبة للتحليل السياسي، رغم اختلاف سردية الطرفين حول موقع الحدث. فروسيا تلح على أن الطائرة الروسية سقطت فوق الأراضي السورية، وبعيدا قرابة 4 كيلومترات عن الحدود التركية، بينما تؤكد حكومة إردوغان على أن الطائرة خرقت الأجواء التركية، وأنها تعتبر ذلك اعتداء صارخا على سيادة البلاد.
هذا الحديث ليس معنيا بتقييم الصراع المحتدم حاليا بين البلدين، وإنما هدفه قراءة الاستراتيجيات، ووضع الصراع المحتدم في سياقها. فليس من شك في أن عبور الطائرة الروسية للأجواء التركية، واحتمالات الخطأ، أمر طبيعي في منطقة مشتعلة، وتكتظ بعشرات الطائرات العسكرية من جنسيات مختلفة، تتواجد في سورية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، بما يعني أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن قراءة الحدث لا يمكن أن تقتصر على ما هو بارز منه، وبالمثل، فإن ردة الفعل الروسية تبدو أمرا مبالغا فيه، خاصة أن الطرف التركي أعرب عن أسفه، ومضى إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول بأنه لو علم بهوية الطائرة لما أقدم على إسقاطها.
ومن أجل فهم استراتيجيات الفريقين نجدنا مجبرين على العودة إلى التاريخ، فالدب القطبي عمل باستمرار، وطيلة تاريخه المعاصر، منذ العهد القيصري، واستمرارا بالحقبة الشيوعية، وما بعدها للوصول إلى المياه الدافئة بالخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط. وقد حال وجود النظام الإمبراطوري في إيران والسلطنة العثمانية، دون تحقيق هذا الهدف الأثير بالنسبة للروس. وفي الحرب الكونية الأولى دخلت روسيا إلى جانب الحلفاء، في الحرب ضد السلطنة العثمانية، وكان من سوء طالع النظامين الحاكمين في روسيا وتركيا أن الحرب أنهت وجودهما.
سقطت سلطة القيصر، بتحالف ضم عددا من الأحزاب السياسية، ليحتكر الشيوعيون السلطة، بعد أقل من عام على اندلاع الثورة ضد القيصر. وكانت النظام القيصري نفسه، هو أحد ضحايا تلك الحرب، بعد أن صوت الجنود الهاربون من الميادين بأقدامهم العارية ضدها. وكان الانهيار الأمني والاقتصادي، وارتفاع معدلات الفوضى والجريمة، من الأسباب التي هيأت لانفضاض الروس عن النظام القيصري.
أما السلطنة، التي شاركت الإمبراطورية الفارسية في إيجاد متراس قوي يحول دون تقدم الروس إلى الجنوب، فقد فقدت ممتلكاتها في البلقان قبل عقود طويلة من الحرب الكونية الأولى، كما خرج عدد من دول أوروبا الغربية عن سيطرتها. وقد انتابها الوهن والضعف، وصار من المألوف توصيف سلطانها بالرجل المريض بالأستانة. وحين اندلعت الحرب، كان الغزو الغربي، لها بمثابة رصاصة الرحمة. لكن هذه الحوادث لم تشبع رغبة الحكام الجدد في روسيا، ولم تمكنهم من التسلل جنوبا، سواء باتجاه الخليج أو نحو البحر الأبيض المتوسط.
لقد انتهت الحرب الكونية، بانتصار الأتاتوركية، وبتحالف تركي مع الغرب الخصم اللدود للشيوعية. والحال ذلك لم يختلف عن إيران، التي بقيت عصية على الروس. في نهاية الحرب الكونية الثانية عمل الروس مجددا على الاقتراب جنوبا، فاحتلوا أذربيجان، وبعض الأجزاء الشمالية من إيران، حيث أقاموا نظاما شيوعيا في عام 1948 جمهورية مهاباد. ومهاباد هي منطقة كردية، وبالنسبة للأتراك والإيرانيين معا، فإن بقاء هذه الجمهورية واستقرارها يحملان خطرين لا يحتملان. أولاهما قيام دولة كردية يمكن أن تكون مستقبلا بذرة لدولة قومية تضم الأكراد في إيران والعراق وتركيا وسورية، وتشكل تهديدا لأمنهما القومي. أما الخطر الآخر الجاثم فهو تأسيس دولية شيوعية على حدودهما مباشرة، دولة هي أقرب من روسيا إلى المياه الدافئة في الخليج العربي.
وبالنسبة للغرب، فإن قيام جمهورية مهاباد، هو خارج القسمة في يالطا ولا يمكن القبول به، كونه يشكل أولا اعتداء على سيادة دولة حليفة، وهو من جهة ثانية، يشكل تهديدا للخليج العربي الذي تأكد في حينه أنه يمتلك مخزونا هائلا من الذهب الأسود، سيجعل مالكيه يمتلكون مفاتيح خزائن العالم.
ولذلك كان من الطبيعي أن يمارس الغرب مختلف أنواع الضغوط على الاتحاد السوفييتي لينسحب من الجمهورية المسخ، ولتتقدم على إثر ذلك الانسحاب، قوات الشاهنشاه، فتطيح بالنظام الشيوعي، وتعدم قياداته.
ظلت العلاقة بين تركيا وروسيا محكومة بثقل التاريخ، فالأتراك لم يكونوا ليغفروا لروسيا إسهامها في إضعاف سلطنتهم، وإطلاق رصاصة الرحمة عليها. والروس لم يكونوا ليغفروا أيضا لتركيا أنها ظلت باستمرار تمثل متراسا غير قابل للكسر، يحول دون وصولهم إلى حوض الأبيض المتوسط.
وحين حدثت الحركة الاحتجاجية رأت فيها تركيا استمرارا للحراك الذي حدث في مصر وتونس، وأن تمكن المحتجين من إسقاط الدولة السورية سيمكن الإخوان من تشكيل إمبراطورية إخوانية، في أربع دول هي تونس ومصر وتركيا وسورية، وربما اليمن لاحقا. وليس من شك في أن الأتراك قد وضعوا بعين الاعتبار أهمية سورية، كطريق ترانزيت آمن ومهم وسهل، لتصدير بضائعهم نحو الجنوب، في الأردن والسعودية واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي. أما روسيا بوتين فقد رأت أنها في حال سقوط الدولة السورية ستفقد آخر موقع استراتيجي بحري لها في حوض البحر الأبيض المتوسط. ولم يكن ذلك مقبولا البتة، بالنسبة لحكومة تتهيأ للبروز بقوة، مجددا بالمسرح الدولي. ولذلك وجدت ضالتها في الأزمة لتأكيد حضورها السياسي والعسكري، مجددا بحوض البحر الأبيض المتوسط، كي تكسر احتكار تركيا الضفة الشرقية من هذا البحر.
ليس في السياسة كما يقول رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عداوات أو صداقات دائمة وإنما مصالح واستراتيجيات. ولعل الأيام القادمة تتكشف عن تحولات أخرى، خاصة بعد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية وقرار مجلس الأمن الدولي الأخير، بتبني خيار التفاوض السلمي، بديلا عن المواجهة المسلحة لحل الأزمة السورية. وليس علينا سوى الانتظار.