معرفة الناس القانون الواجب التطبيق هي أساس الدولة المدنية في العالم الحديث، ولا يمكن للقضاء أن يُراكم خبرته إلا باعتماد الأساليب الحديثة في استقرار الأحكام القضائية ومنها التقنين والإلزام بالسوابق القضائية، وأتمنى أن تصدر مدونة الأحكام الشرعية التي صدر بها أمر ملكي كريم قريبا، وأن يتم الإلزام بها.

التقنين للشريعة يمكّننا من تحقيق معايير الحوكمة الحديثة، ومن دونها فإن تلك المعايير يصعب تحقيقها جدا، وسألقي الضوء على بعض تلك المعايير في ضوء عدم التقنين؛ فمعيار الوضوح في التشريع تعتريه الكثير من الضبابية، وهناك الكثير من الأحكام التي لا يمكن للناس معرفة ما هو القانون الواجب اتباعه فيها، وهل الالتزام به سيكون معترفا به أمام القضاء أم لا؟

هناك معيار آخر وهو الشفافية، حيث من معايير الحوكمة أن يكون القانون شفافا أمام الجميع وتحت اطلاعهم، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في حال عدم وجود كود يلتزم به القاضي، وهذا المعيار من أهم الوسائل الحديثة لمحاربة الفساد، حيث إن الشفافية هي العدو الأول للفساد. وفي معيار النزاهة؛ فإن من دواعي النزاهة أن يكون القانون الذي يرجع إليه القاضي معروفا للجميع، مما يُحجم دعاوى الفساد التي قد يدّعي بها أحد الخصوم. وفي معيار المساواة؛ فإن المساواة بين المترافعين في الأحكام جزء من معايير الحوكمة المهمة، بينما في ظل عدم وجود قانون معين؛ فإن من الطبيعي أن يحصل هناك تفاوت كبير في الأحكام بين القضاة بسبب اختلاف طبائع البشر ورؤاهم.

كنت كتبت أكثر من مرة عن التقنين من عدة زوايا، وسأعيد بعض ما طرحته سابقا، فالحقيقة أن فتوى تحريم تقنين الشريعة حرمت البلد مما يُسمى بالتطوّر التراكمي في مجال التشريع النظامي "القانوني" برأيي، فمن المعلوم أن القانون/ النظام يعتبر عصارة الحضارة الإنسانية، والتي تنمو مع الوقت والزمن بشكل تراكمي، إلا أننا وللأسف نعتبر جامدين في نفس المكان، كون القانون لدينا يعتمد على الشخص اعتمادا شبه كلي، فكل قاض يجتهد ويبحث بنفسه ويتطور فكره تدريجيا، إلى أن يكبر ويخرج من الجهاز، وهكذا يأتي من بعده، ويبدأ بنفس القصة، بخلاف الأمم الأخرى التي يتطور القانون لديها بشكل تراكمي (من خلال التقنين والسوابق)، فقضاتهم يعتمدون على معرفة وجهود من سبقوهم بالخبرة والمعرفة من قضاة الأمس ويراكمون عليها وهكذا.

وبالتأمل بعمق في فتوى منع التقنين؛ نجد أنها متناقضة في أصلها، ولو التزمنا بهذه الفتوى وباطراد في استدلالاتها لكان من المستحيل أن يقوم القضاء بشيء! وسأذكر العديد من الأمثلة لأجل إيضاح الفكرة.

هناك الكثير من الفتاوى التي في حقيقتها تقنين، وكيف للحاكم أن يلزم الناس بشيء فيه خلاف بين الفقهاء إلا من خلال التقنين! وهذا بالاتفاق اليوم أنه من حق ولي الأمر أن يلزم الناس برأيه الذي يختاره فيما يهم الشأن العام، طالما كان هناك خلاف بين العلماء، وإلا لما استقامت الحياة حتى لو كان الشخص المُلزَم هنا لا يرى نفس الرأي! هذه الصورة المبسطة في النظرية السياسية في الإسلام قديما هي انعكاس لضرورة الإلزام الآن برأي الدولة من خلال المؤسسات الحديثة للناس، وكما يُباح للحاكم ذلك، بلا تعارض للآية (فاحكم بين الناس بما أراك الله)، فمثل أن الحاكم المسلم يحكم برؤيته ولا تعتبر متعارضة مع الآية، فإن الدولة/ ولي الأمر اليوم يقوم بنفس الدور.

لنأخذ مثالا آخر من آراء الفقهاء قديما؛ فإلزام الناس بفتوى أهل البلد كما يعبّر الفقهاء دائما هو جزء من مبدأ التقنين، فبأي حق تلزم من يرى عدم شرعية قنوت الفجر في بلد الشافعية بالقنوت أو عكسه؟ حتى الحنابلة يعدّون القراءة بغير رواية أهل البلد من المكروهات في الصلاة! وكذا إلزام الناس بالفتوى التي ترى حرمة قيادة المرأة، وفتوى تقدير الدية وقتل مهرب المخدرات، وفتوى تحديد الأوقات التي تكون بين الأذان والإقامة وإلزام الناس بها، وأي إلزام للناس في أي مسألة اجتهادية وهكذا. كل هذه الآراء مبنية على استعمال التقنين واختيار رأي من الآراء وإلزام الناس به، الأمر الذي يدخل ضمن المحاذير التي يمنع المعارضون التقنين من أجلها!

سأنتقل إلى إلزام آخر من نوع مختلف؛ الكل الآن يؤمن بضرورة تقنين الإجراءات للتقاضي، وهي تمارس فعليا اليوم بلا اعتراض من أحد بمن فيهم المعارضون للتقنين، وتساؤلي هو كالتالي؛ بأي شيء تمنع صاحب الحق الذي يطلب حقا كفله الله له من الاعتراض على حكم القاضي بعد مضي فترة الاعتراض (30 يوما)؟ أليس هذا تقنينا أيضا؟ وهكذا في شطب الجلسة وفي تقادم الاعتراض لالتماس إعادة النظر. لماذا لا نقول إن القاضي يجب عليه أن يحكم بما أراه الله، ولا يجوز أن نمنعه بتقنين طالما تدخل القضية في اختصاصه الولائي والمكاني، وكون الموضوع مما قد تختلف فيه الآراء؟ ويندرج هنا الكثير من الإجراءات التي تنظمها القوانين دائما لأجل الحفاظ على العدالة وعدم تعطيلها.

الخلاصة؛ أننا منعنا أنفسنا من أفضل منتجات الحضارة بشبهة غير صحيحة، وغير قابلة للتطبيق ولا الاستمرار، ولجأ بعض القضاة إلى البحث عن مصادر أخرى غير مهنية من خارج القضاء والنظام مثل الفتاوى، الأمر الذي يتسبب في إشكال كبير، فالفتوى تختلف تماما عن القضاء، وقد كتبت مقالا بعنوان "الفتوى بين الرأي والقانون"، شرحت فيه هذه الإشكالية، وضرورة التفريق بين الفتوى والقانون "النظام" الذي يجب أن يحكم به القاضي الشرعي.