يقال إن قوماً خرجوا إلى الصيد، وبينما هم في عرض الصحراء إذ خرجت عليهم أم عامر ـ كنية للضبع ـ ، فطاردوها فهربت منهم حتى دخلت إلى خباء أعرابي، فخرج إليهم الأعرابي وقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صيدنا وطريدتنا، فقال: كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثبت سيفي بيدي، ومن أخلاق العرب أنهم إذا استجار بهم أحد لا يخذلونه. فرجع الصيادون وتركوه. فقام الأعرابي إلى شاة عنده فحلبها وقربها إلى الضبع، وقرب إليها إناء ماء فأقبلت تشرب مرة من هذا ومرة من ذاك حتى ارتوت واستراحت وعادت لها الحياة ونامت. فبينما الأعرابي نائم في جوف الليل إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وشربت دمه وأكلت لحمه ثم تركته. فجاء ابن عم له يزوره في الصباح، وإذ به مجندل وقد بُقر بطنه وأُكِل قلبه، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها، فقال: هي والله التي أجارها بالأمس. فأخذ قوسه وكنانته وتبعها، فلم يزل يبحث عنها حتى أدركها فقتلها، ثم بكى على ابن عمه عند جثتها، وأنشأ يقول:

ومن يصنعِ المعروفَ في غير أهلهِ

يلاقي الذي لاقى مجيرُ أم عامرِ

ذكرتني هذه القصة التراثية، وبيت الشعر المنسوب لأبي العتاهية، بأمثلة قد نختلف معها أو نتفق عليها، ومنها: "اتق شر من أحسنت إليه" و"خيراً تعمل شراً تلق" و ـ باللغة الدارجة ـ "خير لا تسوي شر ما يجيك". الناس في دنيا اليوم يعانون ممن يطلب منهم التوسط للصلح في مسائلهم المالية وأحوالهم الشخصية وغيرها، ومعاناتهم هي في جعلهم خصوما لهم، بعد أن كانوا أسبابا لحل معاناتهم، مما جعلهم ـ للأسف ـ يرددون البيت والأمثلة السالفة الذكر، وربما ندموا على الساعات التي ضيعوها مع أناس لا تقدر وربما لا تستحق الثواني فضلاً عن الدقائق.

لست مثبطاً لفاعلي الخير، ولا بالمحبِّط لهم، ولكني أتمنى منهم الإقلال جداً من التوسط، وكذلك التريث كثيراً في تحقيق مطالب التوسط في حل الخصومات، والاعتذار مرة ومرتين وثلاثا، حتى يتم التأكد من أن الطالب أو الطالبة للوساطة يستحق أو تستحق التوسط، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية، أو ظروفهم المعيشية. يقول الأمير الشاعر أبو الربيع سليمان الموحدي:

لا تصنع المعروفَ إلا لمنْ

رأيته أهلاً لشكر الصنيعْ

لا أريد منع الناس عن التنافس لأجل الحصول على ثواب الإصلاح. قال الله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما". ولست بالناسي لقول ربي سبحانه وتعالى"هل جزاء الإحسان إلا الإحسان". ولا لقوله جل شأنه"من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها..". ولكني أقول لطالبي الإصلاح إن تقدير الوسطاء والمصلحين مطلوب، وأقل المطلوب هو أن نشكرهم، ونشعرهم بالامتنان.

ذكرت وسط المقال المثل المشهور؛ "اتق شر من أحسنت إليه". ولأجل توضيحه، وخروجا من الخلاف الذي قد يتبادر إلى الأذهان، أؤكد على أنه لابد من أن نضيف عليه في آخره كلمةَ "من اللئام" ليصبح المثل؛ "اتق شر من أحسنت إليه من اللئام". ومشهور بين الكل أبيات المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكتَه

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

هذا البيت شرحه الإمام والمفسر واللغوي المشهور، الواحدي ـ أفضل من شرح ديوان المتنبي ـ بقوله: "الكريم يعرف قدر الكرام فيصير كالمملوك لك إذا أكرمته، واللئيم إذا أكرمته يزيد عتواً وجرأةً عليك".