-1-
"المملكة العربية السعودية.. بلاد للعالم كله".
لم أسمع، ولم أقرأ، كما لم يسمع، ولم يقرأ غيري – فيما أظن وأعلم – مثل هذه العبارة السياسية الحضارية والإنسانية من حاكم، أو زعيم، في الشرق، أو في الغرب، في التاريخ القديم، أو التاريخ الحاضر، التي أبلغها خادم الحرمين الشريفين في الأمس (24 /10 /2010) لمجموعة من السفراء الجُدد لدى المملكة، بمناسبة تقديم أوراق اعتمادهم.
فماذا تعني هذه العبارة سياسياً، ودينياً، وحضارياً؟
وهل هي عبارة ترحيبية عابرة، للسفراء الجُدد في المملكة؟
وهل هي عبارة، تستند إلى حقائق واقعة على الأرض الآن؟
وهل هي عبارة، لإثارة عواطف الجماهير، لمرام سياسية معينة، كما درج على ذلك معظم السياسيين في الشرق والغرب، علماً بأن هذه العبارة قيلت لمجموعة من السفراء الجُدد، وليس في احتفال شعبوي حاشد؟
وهل قيلت هذه العبارة، في مناسبة وطنية، أو احتفال ديني، لمزيد من التحفيز الوطني والديني، أم أنها قيلت في اجتماع سياسي محدود، هدفه إبلاغ رسالة للعالم، بواسطة سفراء جزءٍ من هذا العالم؟
وهل هذه الرسالة موجهة فقط لهؤلاء السفراء، الذين حضروا هذا اللقاء، أم أنها موجهة للعالم القريب والبعيد، وللشرق والغرب؟
وهل تنطلق هذه العبارة، من مذهبية، أو طائفية، أو أيديولوجية واحدة ومحددة وضيقة، أم أنها تنمُّ عن انفتاح إنساني عالمي؟
-2-
راودتني كل هذه الأسئلة، التي سأحاول في هذا المقال القصير المحدود، أن أجيب عن أهمها وأشملها، لكي يتضح لنا ماذا كان يدور في خلد خادم الحرمين الشريفين من تصوّر للدور السعودي في مطلع الألفية الثالثة، ومقتبل القرن الواحد والعشرين.
ولكن، قبل هذا وذاك، دعونا نؤكد حقيقة تاريخية سابقة وقريبة منا، وهي أن عدداً كبيراً ومختلفاً من الدعاة الدينيين، الذين أطلقوا على حركاتهم مختلف الأسماء والألقاب، الموحية بالإصلاح، والهداية، والإرشاد، كانت في معظمها حركات للهدم، والتدمير، والتفجير، والإرهاب، وخطف الدين، وامتطاء نصوصه، لبلوغ الأهداف الخاصة، وتحديد التيار الديني والفكري باتجاه واحد، لا عودة فيه، وحصر الإسلام الحنيف في زاوية ضيقة، وركن عسير ومحدد، واعتبار ما سبق وما لحق من اجتهادات ومساهمات وإنجازات فكرية دينية، هرطقات، ومحاولات لهدم الإسلام.
هكذا، وبكل بساطة.
وكأن الإسلام لا يملك هذا التاريخ الممتد، طيلة 15 قرناً.
وكأن الإسلام دينٌ، لا يدين به مليارات من البشر، من غير هؤلاء، في طول العالم وعرضه.
وكأن الإسلام دينُ عبادات فقط، وليس فكراً، وفلسفة، ومنهاجاً في الحكم والأخلاق. ساهم في بناء كل هذا، مئات المفكرين، والفقهاء، والفلاسفة، والمؤرخين، وعلماء الاجتماع، والاقتصاد.
وكأن الإسلام الصحيح والقويم، محصورٌ في فئة من الناس فقط، تعيش في الجزيرة العربية، أما إسلام مليارات البشر في طول العالم وعرضه، فلا وزن له، ولا اعتبار.
وكأن ما يقوله وما يفتي به، ثُلة من دعاة الدين في الجزيرة العربية ومصر، هو الإسلام بعينه فقط، ولا شيء غيره. وليست اجتهادات شخصية، وآراء خاصة لا تُلزم غير قائليها، وضعت السعودية لها مؤخراً الضوابط والكوابح والتنظيم، لكي تحول بين هؤلاء وبين أعداء الإسلام المتربصين به، من أن يُمعنوا في الافتراء، والادعاء، والبغضاء للإسلام.
-3-
إن مقولة، أن "السعودية.. بلاد للعالم كله"، تنطلق من حقيقة دينية وتاريخية واقعة على الأرض منذ 15 قرناً. باعتبار أن السعودية محتضنة الإسلام، ومهبط الوحي، وقبلة المسلمين في كل أنحاء الأرض، وموقع الحرمين الشريفين. وإليها يعتمرُ ويحجُ ملايين المعتمرين والحجاج كل عام، من كل فج عميق. ولا منعَ ولا عزلَ لأي معتمر أو حاج، أبيض كان أم أسود أم أصفر، أو كان شرقياً أو غربياً. فهي إذن بلاد مفتوحة لكافة الناس، الذين يتوافدون عليها لأداء المناسك الدينية. وعلى السعودية تجاه هذا، مهمة كبيرة، وجسيمة، صحية وأمنية وسياسية.
وإن مقولة، أن "السعودية.. بلاد للعالم كله"، تعني أن الإسلام الحنيف رغم تنوعه، هو في حقيقته، وأصوله، وأسسه، إسلام واحد. والفقهاء ورجال الدين، هم الذين أبدعوا له أشكالاً، وفسروه تفاسير مختلفة، خضعت لعوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وبيئية مختلفة. ولعل سلسلة الكتب التي صدرت بإشراف المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي تحت عنوان: "الإسلام واحداً ومتعدداً"، وصدر منها حتى الآن 15 كتاباً، خير دليل على ذلك. فالإسلام جاء واحداً ثم تعدد.
وإن مقولة، أن "السعودية.. بلاد للعالم كله"، تعني أنه رغم اختلاف الآراء بين فقهاء السعودية وفقهاء العالم الإسلامي الآخرين، في كثير من المسائل الدينية، إلا أن السعودية الآن – في عهد الانفتاح والإصلاح - لا تصادر الرأي الآخر، ولا تعزله، ولا تنفيه. وهي تفتح ذراعيها لكل مجتهد، وتستمع إليه. فهي لكل فقهاء العالم، وليست لفئة واحدة من الفقهاء.
وإن مقولة، أنّ "السعودية.. بلاد للعالم كله"، تعني أنّ السعودية - كمالكة أكبر احتياطي من البترول في العالم - لم يقتصر خيرها على أبنائها فقط، وإنما عمَّ هذا الخير على العالم كله. وما إنتاج السعودية من ملايين براميل البترول يومياً، لتزويد الحياة البشرية كلها بالطاقة اللازمة، إلا تأكيد لتطبيق هذه المقولة. كما أن حجم المساعدات السنوية والهبات، التي تُمنح لدول العالم العربي والإسلامي والدول الفقيرة في العالم الثالث ما هي إلا تأكيد لتطبيق هذه المقولة. وهو ما صنَّف السعودية عام 2003 لتكون الدولة الأولى في العالم في تقديم مساعدات خارجية، نسبة إلى إجمالي الناتج القومي الوطني.
وبما أن السعودية امتازت بكثرة جامعاتها الدينية المتخصصة، فقد كانت قبلة طلاب الدراسات الدينية في العالم الإسلامي والعالم كله، ونافست الأزهر الشريف والعريق في هذا الخصوص، فقد صدقت عليها مقولة أنها "بلاد للعالم كله".
وأخيراً، فإن مقولة، أن "السعودية.. بلاد للعالم كله"، تعني أن السعودية، كما أنها تستقبل آلاف الطلبة الدارسين للعلوم الدينية المختلفة من مختلف أنحاء العالم، فهي في الوقت ذاته ترسل آلاف الطالبات والطلبة المبتعثين (100 ألف طالبة وطالب) إلى معظم أنحاء العالم للدراسات المتخصصة في معاهده وجامعاته. وهذا التبادل التعليمي مثال نادر في العالم الآن، حيث يتم الاستقبال ولا يتم مثيله من الإرسال، أو يتم الإرسال ولا يتم مثيله من الاستقبال.