من القواعد المقررة في الشريعة النهي عن التكلف والتعمق والتعنت في الدين، وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه وقوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). وأخرج فيه مجموعة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها قوله: "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". ذاك أن مبنى الشريعة على اليسر والسهولة والعفو لا التكلف والتعمق والتنقير والتنقيب، ومن هنا كان أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء مسكوت عنه فحرم بسبب سؤاله هذا! إنه لحديث عظيم جدا وفيه وعيد وتهديد ووصف بالجرم لمن يتتبع المسائل ويدقق فيها؛ حتى ليؤدي سؤاله هذا إلى ما يحرج المسلمين، هذا وقت تنزل الوحي، فليتأمل العقلاء.

وورد في الحديث كذلك: "ويكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال".

قال ابن عبد البر رحمه الله: "وأما قوله وكثرة السؤال؛ ففيه قولان: أحدهما كثرة السؤال عن المسائل النوازل المعضلات في معاني الديانات".

إي إن المنهي عنه هو كثرة السؤال (عن النوازل المعضلات)، أي إن كثرة السؤال هنا لا تقتصر فقط على ما لم يقع من الأمور التي يفترضها بعض السائلين، بل تشمل أيضا التكلف في معرفة أحكام ما وقع منها. وهو ما رجحه ابن المنير يرحمه الله، أي إن المراد بالنهي كثرة السؤال عما وقع وما لم يقع؛ لا عما لم يقع فقط. ومما يؤدي إلى هذا المعنى في فهم الحديث ما ذكره الإمام ابن دقيق العيد إذ قال: "وأما كثرة السؤال ففيه وجهان:

أحدهما: أن يكون ذلك راجعا إلى الأمور العلمية. وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- " أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته"، وفي حديث اللعان لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلا. فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها..إلخ".

قلت: أن يجد الرجل مع امرأته رجلا ليس هو مما يستحيل وقوعه، بل يقع في كل مجتمع، ومع هذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا كره أن يُسأل هذا السؤال؛ رغم أنه مما يُحتاج إليه. ورغم أنه مما يقع – ولو قليلا بل نادرا -.

وكان الصحابة لا يكثرون سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من كراهته لذلك، وكانوا يفرحون بالأعرابي العاقل يأتي فيسأل النبي الكريم فيجيبه. بل ورد أنهم كانوا أحيانا يطلبون من أعرابي أن يسأل النبي ويعطونه على هذا مكافأة، كما ورد عن أبي أمامة في المسند، قال: أتينا أعرابيا فرشوناه بُردًا (أي ثوبًا)، وقلنا له: سل النبي صلى الله عليه وسلم. إذن فنهج النبي صلى الله عليه وسلم، ونهج الصحابة الكرام هو عدم كثرة الأسئلة والاستفتاءات، وتخفيفها قدر الإمكان، وترك الناس فيما لم ينزل فيه نصوص قاطعة، تركهم بلا تكلف للسؤال ولا استجلاب للحرج والتشديد فيما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله.

وقد ضرب ابن حجر العسقلاني يرحمه الله مثالا جيدا للتنقير في الأسئلة التي توجب المشقة على الناس مما يلزم المفتي بالقول بالمنع، كأن يُسأل المفتي عن السلع التي توجد في الأسواق: هل يُكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز؛ فإن عاد فقال: أخشى أن يكون من نهبٍ أو غصبٍ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة فيحتاج أن يجيبه بالمنع!

فهذا السائل في هذا المثال الذي يذكره ابن حجر لم يكتف بجواز أن تشتري بضاعة ممن لا تعلم من أين أتى بها أسرقها أم اكتسبها، بل أضاف أمرا زائدا هو الخوف من أن تكون منهوبة، ويصادف في ذلك الوقت أن حصلت بعض السرقات لهذا النوع من البضاعة مثلا فيضطر المفتي إلى أن يمنع شراء هذا النوع فيحرمه على الناس، أي إن السائل كأنه أراد فتوى بالمنع.

وشبيه بهذا السؤال ما قرأته مرة على لوحة في أحد المساجد: عن لبس عباءة الكتف للمرأة، وهي تصف جسد المرأة وتبدي مفاتنها..إلخ. فجاء الجواب بتحريم عباءة الكتف؛ ذاك أن الجواب جاء ردا على السؤال الذي وصف عباءة الكتف بتلك الأوصاف التي لا يستطيع من سمعها إلا أن يحرم لبسها! فشكرا للسائل وزاده الله حرصا!

كان الصحابة يتدافعون الفتوى تدافعا، وما كان أحدهم ليدفعها عن نفسه لولا أنه يعلم أن في الأمر سعة، غير أننا نعاني اليوم تضخما هائلا في برامج الفتاوى، على خلاف نهج الصحابة رضي الله عنهم وابتعادهم عن ذلك ما أمكن.

ختامًا، ورد في الحديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية: {وما كان ربك نسيا}".

فالأشياء إذن على ثلاثة أقسام: أشياء نزل تحريمها، وأشياء ثبت حلها، وأشياء مسكوت عنها فهي عفو من الله، يكره التنقير عنها والبحث فيها.