"أعطني مسرحا؛ أعطيك شعبا مثقفا". كانت مقولة الممثل المسرحي الروسي ستانسلافكسي تخطر في بالي كثيرا خلال الأسبوع الماضي، وأنا أشارك ضمن اللجان التنظيمية لفعالية تصفيات المسرح المدرسي التي كانت تستضيفها منطقة عسير، وشاركت فيها وفود من مناطق مختلفة، قدمت عروضا مسرحية على خشبة مسرح حقيقي أمام جمهور متنوع، وهي المرة الأولى التي أشاهد فيها فعليا عروضا مسرحية داخل المملكة، كتبتها وأخرجتها وأدتها فتيات من وطني على مسرح تعليمي.

غرابة الفكرة وحداثة التجربة في المملكة بشكل عام وفي التعليم خصوصا، وتحديدا في مدارس البنات، كان لها أثرها الواضح على جودة العروض المسرحية التي قُدمت، خاصة من حيث المعايير الفنية والتقنية.

ولكنها مقارنة مع القطيعة التي حدثت مع المسرح في التعليم تعدّ خطوة ممتازة، وسيكون لها أثرها العميق مستقبلا على عدة أصعدة.

هذه القطيعة تأتي ضمن سياق مجتمعي يحارب الفنون بالمجمل، كالسينما والغناء والتصوير والفنون التشكيلية، ويتوجس منها ويخشى ممارستها أمام العلن وفي الداخل، بينما لا تمثل له هذه الفنون أية مشكلة لو حضرها أو شاهدها أو تفاعل معها خارج حدود الوطن، فصار رفضها عُرفا قُيّد بالتحريم الديني الذي لا يستند على أساس قوي وصحيح.

ومع سطوة العولمة تجاوز الناس الخصومة مع التصوير والرسم التشكيلي، وندم كثير على تفريطه في صوره الخاصة، بسبب فتاوى حرمت التصوير واقتناء الصور ولو للذكرى.

فظهر لنا مؤخرا كثير من المصورين والفنانين التشكيلين من الجنسين الذين برزوا خلال السنوات العشرة الأخيرة، وما صاحب ظهورهم من حراك يناسب أنشطتهم ومعارض فنية لهم تابعة لجهات رسمية وغير رسمية. وكذلك انتعشت صناعة الأفلام والإخراج لدى فئة كبيرة من الشباب ساعد على الإبداع فيها الطفرة التقنية الأخيرة ووسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، المعتمدة على الفيديوهات القصيرة التي تفنن فيها مخرجوها لاحقا.

أما من احترف صناعة السينما من الشباب والشابات، فقد اتجه بموهبته في هذا الفن إلى الخارج، حيث قاعات السينما متاحة وتحتفي بإنجازاتهم، وهذا ما نلاحظه في هذه الفترة التي يقام خلالها مهرجان دبي للسينما، وتشارك فيه عدة أفلام سعودية تشهد إقبالا واهتماما كبيرين.

في الجانب الفني الغنائي، ومع وجود أكبر عدد من المطربين والملحنين والمؤلفين في السعودية، مقارنة بدول الخليج الأخرى، إلا أن الحفلات الغنائية المباشرة انحسرت في السنوات الأخيرة بشكل عام، وتلاشت في مناطق بعينها حتى صارت المسارح التي كانت رائدة بحضور وأصوات كبار الفنانين العرب مكانا لتجمع هواة "الشيلات" التي استشرت كالداء في ذائقة الناس.

وحينما يظمأ أحدهم للموسيقى يخرج بحثا عنها في دول الجوار، ولأن المسرح يعد أبو الفنون، فقد جرى عليه ما يجري على الفنون الأخرى لسنوات طويلة، وأصبح حضوره -إن حضر- هشا وهامشيا ومشوها يغلب عليه التهريج والهزل. في مناهج اللغة العربية قبل 10 سنوات كان المرور على الفن المسرحي باعتباره أحد أنواع الكتابة النثرية الحديثة سريعا، ويذكر فيه نماذج قليلة وسير مقتضبة لبعض رواد المسرح في الوطن العربي، ومع تطوير المناهج أضيفت الكتابة المسرحية لمادة التعبير، ولكن أهمل فيها الجانب الحركي، وتم التركيز على الأساسيات الفنية للكتابة المسرحية، وبقي المسرح المدرسي يستخدم للإذاعة الصباحية النمطية، أو لمشاهد حركية قصيرة في الحفلات الختامية، لا تترك أثرا مهما لدى المتلقي.

ولعل أبرز ما لاحظته خلال الفعالية المسرحية التي أقيمت في منطقة عسير مؤخرا بين الفرق المتنافسة: ضعف النصوص التي قدمتها الطالبات، واعتماد بعضها على قصص واقعية أو منقولة، فلا توجد ميزة ابتكار قصص وأحداث جديدة لها مواضيعها وحواراتها الخاصة.

وأيضا المسرحيات المعروضة يغلب عليها الحزن والمظلومية واستدعاء البكاء بطريقة مبالغ فيها، فضلا عن استخدام الهمهمات والآهات بدلا من المؤثرات الموسيقية التي قد تستبعدها لجنة التحكيم لأجل الجدل الفقهي حولها.

وربما هذه الأمور سيتم تداركها لاحقا مع تكرار المحاولات وعمق التجربة واكتمال القناعة بجدوى المسرح.

الاهتمام الذي أولته وزارة التعليم مؤخرا للمسرح المدرسي يعيد له هيبته التي يحكي عنها الأوائل، ويشكل في وعي التلاميذ أهمية هذا الفن في تعزيز كثير من القيم التربوية والاجتماعية والوطنية، ويسهم في تشكيل شخصية الطلاب ونحتها مع كل محاولة للوقوف على المسرح وتجسيد دور ما، إضافة إلى دوره الكبير في تعزيز ثقتهم في أنفسهم وتقوية أساليبهم اللغوية والتعبيرية وتوسيع آفاقهم المعلوماتية والثقافية والتقنية.

يعزز هذا كله ميل الإنسان الفطري إلى المحاكاة والتجسيد والانطلاق في رحابة الخيال. هذا الاهتمام سيكون له أيضا أثره الواضح إلى جانب بناء شخصيات إيجابية في محاربة الأفكار المنحرفة والمتطرفة، والأخذ بيد الوسط التعليمي للوسطية والاعتدال التي لا تعوق بناء الأوطان وتقدمها المدني والحضاري ولا اتزانها الاجتماعي.

في طلاب وطالبات المدارس خامات فنية نقية، تحتاج من يستخرج الجمال الكامن فيها، مواهب ستذهلنا بمدى احترافيتها مستقبلا إن اعتُني بها جيدا، وأُبعدت عن منطق الغلو والتشدد الذي يحرم الفنون، ويضع في طريق مريديها ألف عائق وحاجز. يقول ابن خلدون: "الفنون ترقق الطباع" ونحن الآن أحوج ما يكون للنهل من معين الفنون المختلفة، وتربية أبنائنا على تذوقها والتصالح معها، وتهذيب أنفسهم وطباعهم بجماليتها.