يخلط بعض الناس بين مخالفة الأنظمة والقوانين وبين أوجه الفساد الإداري والمالي، وقد صرحت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" في وسائل الإعلام بالقول إن "المخالفات المالية والإدارية هي شيء مختلف عن الفساد، وهي بالتالي من اختصاص الجهات الرقابية الأخرى، أما إذا انطوت هذه المخالفات على شبه فساد ففي هذه الحالة يجب إحالتها إلى نزاهة".
وفي الواقع العملي، تتلقى نزاهة كثيرا من البلاغات والشكاوى التي يعتقد البعض أنها تمثل أوجه فساد ولكنها في الحقيقة عبارة عن مخالفات إدارية ومالية يتم إحالتها إلى الجهات الرقابية حسب الاختصاص، ليقع المبلغ أو المشتكي في فخ التناقض والغموض، فإذا كانت مثل هذه المخالفات النظامية أو القانونية لا تمثل فسادا.. فماذا تسمى إذًا؟ وما المعيار أو الأساس الذي يتم الاستناد إليه في التفريق بين المخالفات وأوجه الفساد؟
يمكن تعريف المخالفات المالية في أدبيات المحاسبة والمراجعة على أنها "الأفعال التي تشكل خرقاً للأحكام التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بتنفيذ عمليات الإيرادات أو النفقات والمصروفات أو بتسيير الأموال العامة والوسائل المادية والحقوق العقارية والمنقولة المملوكة للدولة، الأمر الذي يشكل ضرراً للمصلحة العامة"، وتعرّف المخالفات الإدارية بأنها "فعل أو امتناع عن فعل يقوم به الموظف بإرادته قصداً أو إهمالاً، ويخل فيه بإحدى واجبات الوظيفة العامة (الحكومية)".
أما الفساد فقد وضع صندوق النقد الدولي تعريفاً للأنشطة التي تندرج تحت تعريف الفساد على النحو التالي: "إساءة استعمال الوظيفة العامة (الحكومية) من أجل مكسب خاص يتحقق حينما يقبل الموظف الحكومي رشوة أو يطلبها ويستجديها أو يبتزها لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة، وقد يكون ذلك مقترناً بسوء استخدام للسلطة، كما يتم عندما يقدم رجال الأعمال من القطاع الخاص الرشاوى بقصد التحايل على القوانين أو اللوائح للحصول على ربح أو مزايا شخصية، ويمكن أن يحدث سوء استغلال السلطة العامة أيضاً من أجل مغنم شخصي حتى لو لم يحدث تقديم رشوة، وذلك عن طريق محاباة الأقارب أو التوصية بهم، أو سرقة موارد وأملاك الدولة أو تبديدها".
ومما سبق، يتضح اختلاف كل من المخالفات المالية عن المخالفات الإدارية واختلاف كليهما عن مفهوم الفساد، فإذا كانت المخالفة المالية تنصرف إلى الأفعال التي تشكل خرقاً للأحكام النظامية المتعلقة بتنفيذ العمليات المالية والمحاسبية ويترتب عليها أثر مالي من شأنه أن يضر بالمال العام، فإن المخالفة الإدارية تنصرف إلى كل إخلال بواجبات الوظيفة الحكومية، سواء كان يتعلق بتنفيذ العمليات المالية والمحاسبية أو غيرها من المهام الوظيفية الأخرى ولا يترتب عليها أثر مالي واضح، ويمكن أن تشكل المخالفات الإدارية مخالفة مالية.
أما الفساد فهو عبارة عن مخالفات مالية وإدارية، ولكن من أجل تحقيق ربح أو منفعة شخصية من خلال إساءة استعمال السلطة الوظيفية، وهذا هو المعيار في التفريق بين الفساد والمخالفات النظامية، وهذا ما أجمعت عليه المؤسسات الدولية مثل منظمة الشفافية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي، والبنك الآسيوي للتنمية بأن الفساد: "إساءة استعمال الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة".
وللتوضيح أكثر في التفرقة والتمييز بين المخالفات المالية والإدارية وأوجه الفساد، لنأخذ على سبيل المثال شراء وبيع واستخدام السيارات الحكومية، والتي تعتبر من المصاريف الرأسمالية في الباب الثاني من ميزانية الجهات الحكومية، فمن المخالفات المالية: ما يتعلق بالإخلال بالإجراءات المالية لشراء السيارات مثل عدم اكتمال مستندات الصرف وعدم إرفاق المستندات الأصلية أو عدم ترحيل المبلغ إلى الدفاتر والسجلات المحاسبية، أو الصرف من البند في غير ما خصص له، وذلك نتيجةً لإهمال الإدارة المختصة أو تقصيرها وعدم إلمامها بالأنظمة والتعليمات المالية.
أما من أمثلة المخالفات الإدارية المتعلقة بالسيارات فهي عدم وضع شعار الوزارة على السيارات، أو عدم تسجيل أسماء الموظفين المستلمين للسيارات أو عدم وجود كشوفات لها ونماذج للاستلام أو التسليم، ومن أوجه الفساد في استخدام السيارات استخدامها في أغراض خاصة، أو شراؤها بكميات فوق الحاجة من أجل بيعها فيما بعد والتربح منها بشكل شخصي من خلال استغلال البيع في المزاد العلني، أو استبدال قطع الغيار الأصلية بقطع مقلدة ومن ثم بيعها والاستفادة من فرق السعر أو التلاعب والتزوير في فواتير الشراء.
وعلى هذا الأساس، فإن المخالفات المالية والإدارية في الغالب تخضع للعقوبات المنصوص عليها في نظام تأديب الموظفين مثل اللوم والإنذار والحسم من الراتب، أما أوجه الفساد فهي تعتبر جريمة جنائية وعقوبتها الحبس والفصل من الخدمة الحكومية.
إن تعريف الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد لمفهوم الفساد، لم يفرق بين المخالفات المالية والإدارية والفساد، حيث تضمنت الاستراتيجية أن "الفساد هو كل سلوك انتهك أياً من القواعد والضوابط التي يفرضها النظام"، ووفقاً لهذا المفهوم فإن المخالفات المالية والإدارية على اختلاف أنواعها وأشكالها تدخل ضمن أوجه الفساد حتى وإن كانت بسبب خطأ أو إهمال أو تقصير ولم تكن من أجل تحقيق منفعة خاصة أو التربح من الوظيفة.
وبناءً على ما سبق، هناك حاجة إلى تعديل مفهوم الفساد في الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، إضافة إلى الحاجة لوجود لوائح وأحكام تتعلق بالمخالفات المالية والإدارية وإجراءات التحقيق فيها والتمييز بينهما من قبل الجهات الخارجية للتفتيش والرقابة، والتي من شأنها زيادة الوعي بالثقافة القانونية للأنظمة واللوائح وكيفية التحقيق في قضايا الفساد وسد الثغرات القانونية ومعالجة الخلل في الإجراءات البيروقراطية، إضافة إلى التقليل من حالة التذمر والقلق لدى المواطنين في حال عدم الالتفات إلى بلاغاتهم التي ربما كانت تتعلق بمخالفات مالية وإدارية وليست قضايا فساد حقيقية.