لدي قناعة بأن المكون الأساسي لما يجري اليوم من أحداث سياسية وانعكاساتها الدامية فكريا وإقليميا ناتج أساسا عن افتقار مجتمعاتنا للغة حوارية مشتركة، فقد كانت الممارسة تتخلص في الماضي في عدم نبش "الاختلافات" بين مكونات المجتمع المختلفة، وذلك لكي لا يتأجج الحوار ويحتدم الجدال في بيئة لم تتعود على أدبياته، بل عملت على طمس تلك الاختلافات والإيهام بأن المجتمع مكون من لون واحد، بينما أدى التحرك غير المحسوب في المنطقة من أطراف خارجية وإقليمية إلى نبش ذلك المكبوت ليطفو في مجتمع غير مستعد وفاقد لبوصلة الحوار، جاهل بأي معنى للاختلاف، ومطبق بتشدد لفلسفة "لا تجادل" كمنهج استعلائي أصيل.
نحن بحاجة في ظل العبث الذي تعيشه المنطقة إلى أن نعيد قراءة ما قاله التراث الإسلامي وما سطره المنطق الإنساني حول "الجدل" باعتباره محرك التفكير الأول والنظر لما يحدث حولنا من منطلق التفكير النقدي، بدلا من الاكتفاء بنعت من يتجرؤون على ذلك ويدعون إلى جدل عقلي بأنهم مجرد مؤمنون بنظرية المؤامرة، فمن السهل على أي فرد تخيب حجته أن ينعت غيره بالتنظير.
في تراثنا الإسلامي كان الفهم لمبدأ الجدل متقدما جدا بالمقارنة مع عصرنا هذا، فقد كان هذا التراث لاعبا أساسيا في الجدل المتجاوز للحضارات عبر القرون وفي علوم متعددة حتى أصبح لابن رشد وابن سيناء وغيرهما تلاميذ يتبعون منهجهم في جميع جامعات أوروبا والعالم.
لقد وثق لنا التاريخ وكتبه كثيرا من الجدالات المشهورة في التاريخ الإسلامي، مثل سجالات المعتزلة مع أهل السنة والجماعة، ومناظراتهم مع الشيعة والفرق الكلامية المختلفة في جدالات أثرت الفكر الإسلامي.
إن كنا نريد أن نحيا بسلام لا بد لنا كمجتمعات أن نقبل بالجدل والحوار باعتباره أساسا جوهريا لتطور الفكر المجتمعي، فالرأي الأحادي لم يعد له مكان في ظل هذا التلاقح غير المسبوق للأفكار وتدفق المعلومات والآراء، والقول بضرورة التعاطي مع الاختلاف باعتباره عدوا قادما ليفتك بوحدتنا مردود عليه بالقول بأنه لم تكن هناك وحدة إسلامية عبر التاريخ كله، فقد خلقنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف ولم يخلقنا ليتغلب أحدنا على الآخر، فالمعركة كما أصبحت معروفة اليوم هي معركة أفكار في الأساس، والإرهاب الذي يفتك بالعالم اليوم لم يحقق هذا التمدد الموبوء إلا لأنه حورب بالسلاح فقط، ولم يجتث بالمنطق وجدال أفكاره الباطلة دينيا وإنسانيا.