الحديث عن الأقليات يحتاج إلى تأصيل يفيد كثيرا من المثقفين ويجيب عن تساؤلات الدهماء، ومنها: لماذا رموز الأقلية لا تتبرأ من "إرهابييها"؟ لماذا تصمت الأقلية عما يحدث داخلها من مشاكسات ضد نظام الدولة؟ لماذا لا تتم البراءة من رموز التجريم داخل هذه الأقلية؟ وغيرها من أسئلة هدفها الحقيقي التنمر بطريقة متذاكية يولدها مزاج محتقن ضد الأقلية من قبل الأغلبية التي تعيش هما طائفيا لا هما وطنيا، والذي ينساق له دون قصد بعض المثقفين.

الأسئلة تنطلق من مقدمات خاطئة سببها جهل أو تجاهل ضمانات حقوق الأقليات التي أقرتها القوانين والأعراف الدولية دون حاجة الأقليات إلى أن تعطي ولاءها لغير وطنها، فهذه المواثيق كفلت للأقليات حق التدخل الدولي في حال عجز الدول عن حماية أقلياتها، كما حصل في السودان بعد فتوى القيادي الإخواني بجهاد مواطنيه بحجة اختلاف الدين في الجنوب، ثم تراجع متأخرا بعد أن رأى السودان سودانين، واحترامنا لهذه المواثيق هو ما منحنا أدوارا بارزة في مجالس حقوق الإنسان، وعبدالله المعلمي في هيئة الأمم المتحدة يبذل كل جهده ليدافع عن قضايانا، وواجبنا أن نساعده بواقع يدعم توجهاته، لا أن نخذله بافتعال واقع يصعب ترقيعه أمام العالم.

نعود إلى الأقليات، فنقول إن الدول المتقدمة وحسب المفاهيم الحديثة لأي دولة قائمة بواجباتها، تحرص في تعاملها مع الأقليات على معطى "حق الأقلية وواجب الأغلبية"، بمعنى أن على الأغلبية واجب مراعاة حق الأقلية أكثر من حقها، لأن واقعها كأغلبية يجعلها تتغول على حق الأقلية دون أن تشعر، ولهذا فالديموقراطيات الحديثة التفتت إلى هذه الحقيقة فحاولت تجنبها كي لا تقع في مطب الديموقراطية العمياء التي ينتج عنها "استبداد الأغلبية"، ولهذا تم تلخيص حقوق الأقليات في "حماية الوجود، عدم التمييز، حماية الهوية والمشاركة".

فمثلاً متهمو الأقلية لم يصنفوا كإرهابيين، وإن صنفوا فمن حقهم "إن انطبقت عليهم مواصفات الإرهابيين وليس في رقابهم دماء"، أن يحصلوا على برنامج مناصحة يشارك فيه شيوخهم، بما فيه من امتيازات تيسير زواج، وتوفير عمل، أسوة ببرنامج المناصحة للأغلبية، ومن حقوق الأقلية أن يتم عمل حملة وطنية تتجاوز البرج العاجي الذي عاش فيه الحوار الوطني دون أن يلامس الواقع العام في الشارع، لأغلبية ما زالت ترى كفر شركائها في الوطن لاختلافهم في المذهب، وقد لا يهم ما يحملونه من تكفير بقدر ما يترتب عليه من توفير بيئة حاضنة لكوادر داعش، وأخيرا من حق المجتمع وجود قانون يحميه من تغولات بعض أفراده ضد بعض لأسباب طائفية أو عرقية قبائلية تزرع الكراهية بين فئات المجتمع.

أخيرا، الإرهاب الدولي حتى هذه اللحظة ما زال وفق المعايير "المتفق عليها بين دول العالم" خاصا بفئة محسوبة على الأغلبية، والتحالف الدولي الذي نشارك فيه على أرض الواقع يقصف "داعش" وحدها، فعن أي إرهاب دولي يخص الأقلية يتحدث الأغلبية، علما أن ضحايانا من رجال مكافحة المخدرات مثلا بسبب المهربين والمروجين لم تستدع براءة أحد من مروج أو مهرب، فمجرد الرضا بحق الدولة في احتكار العنف يعني الالتزام بسلطتها، أما الإرهاب الدولي فأمره مختلف، وأثره على مستوى الدولة والعالم عموما، فليس خاصا بمدينة معينة أو حي معين، واستنكاره واجب وطني.

كلنا يعلم أن إشكالية داعش إشكالية عالمية، ومن الممكن الهروب الوجداني من تبعات داعش والقاعدة بإلقاء اللوم على وجود تطرف داخلي مقابل، وتضخيمه بحجم داعش وإشكالاتها العالمية، بحثا عن التوازن النفسي فقط، ولكن ما نتجاهله ولا نحاول الإجابة عنه، أنه قبل داعش كان هناك القاعدة منذ ما يزيد على عقد من الزمان، وكانت مشكلة عالمية أيضا وليست خاصة بنا وحدنا، وكان البعض يعاني "أزمة إنكار" حتى مع اعتراف بن لادن ومشاركة 15 من أبنائنا من أصل 19 في "غزوة مانهاتن"، والآن أصبح البعض يحتاج إلى التوازن النفسي كمخرج للذات المأزومة بالاستقطاب الطائفي، الذي صنعته "صراعات نفوذ سياسي"، استثمرته تركيا وإيران أكثر مما استثمره العرب، فالعروبة أصبحت جسدا ممزقا بالرصاص الطائفي، وغير العرب ينهشون هذا الجسد الذي بأيدينا نقطعه لهم، فهذا العربي يمزق لحم أخيه فيعطي فارس، وذاك يمزقه ليعطي الأتراك، غافلين عن خريطة قد تتشكل من تمزيق هذا الجسد العربي، اللحم لحمنا، والدم من شراييننا، تركيا وإيران وقبلهما دول عظمى بينها صراع قسمة فينا وعلينا، أي مكسب لأحدهم هو خسارة لنا، ومن فرح بقصف أميركا لبغداد بغضا في صدام القاتل حتى لأقاربه بعد مذبحة الأنفال التي تؤكد أنه لم يوفر سنة ولا شيعة، رأيناه يبكي على "صدام حسين" بعد حين متناسيا دمويته الشاملة، لأن من لا يملك استراتيجية بعيدة المدى سيستخدمه الأقوياء في تكتيكاتهم المتغيرة لتحقيق أهدافهم الثابتة البعيدة، ولا يستوي من يرى العقدة في زوال شخص مع من يرى العقدة في زوال فكر، الأول تكتيكي قصير النظر، والثاني استراتيجي بعيد النظر.

مستقبل المنطقة العربية للمراقب في السنوات المقبلة لن يخرج عن ثلاثة أطر نراها من خلال الواقع أمامنا، الإطار الأول: الدولة الفاشلة وفق المعايير الدولية وهذا مشاهد في بعض الدول، الإطار الثاني دول "باكستانية" تتجه للفشل، وأقصد باكستانية أي أنها ستكون بلدانا قوية كنظام سياسي متماسك يملك جهازا أمنيا عسكريا لديه أقوى العتاد وأفضل الأسلحة والتدريب، ولكن الشعب يأكل بعضه بعضا كما في باكستان، يحاول تبرير أزماته التي راكمها منذ ضياء الحق حليف الإسلاميين، وحتى حرب أفغانستان بتوجيه أنظار الشعب إلى خصوماته مع الهند، لتصبح الهند في حد ذاتها مخرجا وتبريرا لأي فشل سياسي نحو التطوير والإصلاح المؤدي لفض التآكل بين فئات الشعب الاجتماعية والفكرية والسياسية. وبقي الإطار الثالث الذي سيتكئ على فتح أراضيه للقواعد العسكرية للقوى العظمى، كأسلوب قديم ما زال يتجدد، رغم أن القاعدة العسكرية ليست ضمانا، وإلا لما احتاجت البحرين مثلا إلى تدخل قوات درع الجزيرة، وعلى هذا فالربيع العربي لم ينته بعد، لأن الترافعات منذ ربيع تونس وحتى الآن ما زالت ترافعات ضد الاستبداد كمرض داخلي، وليس فيروسا خارجيا، فداعش ليست مرضا، بل عرض بشع من أعراض هذا المرض: "الاستبداد".