بعد عمل لمدة 10 أشهر متواصلة ومضنية على دراسة تطوير المنظومة القضائية التابعة لمنتدى الرياض الاقتصادي خرجت أخيرا، ولله الحمد، ولقيت ثناء من عدد من المختصين، مع عدم ادعاء الكمال، فالقصور وارد؛ إلا أنني أزعم أن هذه الدراسة ربما هي من أهم الدراسات حول القضاء، التي تحدثت عنه بشمولية من عدة جوانب وبنظرة جمعت في عمقها بين الأصالة والحداثة.

عملت في اللجنة المشرفة على الدراسة كعضو من بين ثلاثة، وتشرفت بعرضها وتقديمها في المنتدى بحضور عدد كبير من الشخصيات المعروفة والمرموقة، وكذلك عدد كبير من المهتمين والمختصين، وكنت قد اشتركت في إعدادها مع الزميلين المميزين الشيخ الدكتور أحمد العميرة رئيسا وكذلك الدكتور فيصل الوعلان، وكلاهما يحملان تأهيلا وخبرات متنوعة ومميَّزة جدا، وكان لدعم المنتدى للدراسة كبير الأثر سواء من مجلس الأمناء الموقر، أو من أمانة المنتدى برئاسة د. محمد الكثيري وفريقه الرائع حقا.

أعود للدراسة التي نتأمل في أن تستفيد منها الجهات العدلية في وضع خارطة طريق للتحديث والتطوير القادم في الأجهزة العدلية، وهي في الحقيقة لا تأتي إلا في إطار حرص ورغبة ولاة الأمر، وفقهم الله، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين في تبنى مسيرة الإصلاح والتطوير في مملكة العدل والإنسانية.

الدراسة كانت مركزة في ستة مجالات متنوعة أذكرها على التوالي؛ الهيكلة القضائية، والتشريعات القضائية، والموارد البشرية، والبنية التحتية، والحوكمة القضائية، والوسائل البديلة لفض النزاعات، وقد تحدثت الدراسة في كل محور عن توصيف للوضع الحالي وما أحدثه نظام القضاء 1428 من إصلاحات، ثم تعرض الدراسة الملحوظات أو النقاط التي تحتاج إلى معالجة حسب الوضع الحالي، وذلك في كل محور تقريبا، ثم توصيات تقترحها الدراسة لذلك، وهي تقريبا الهدف من الدراسة لكشف الجوانب التي تحتاج لعلاج أو تحديث من قبل الجهات المعنية.

كان من أهم النقاط التي ترى الدراسة ضرورة معالجتها؛ استقرار الأحكام القضائية، بمعنى أن توضع آلية لضبط التفاوت في الأحكام وتعزيز معرفة المستفيدين المسبقة بالنظام الواجب التطبيق قبل وصول الموضوع للمحكمة، وهذا الأمر من الأساسيات التي يجب علاجها بشكل عاجل، وقد أمر المقام السامي -مشكورا- بوضع مدونة أحكام شرعية على شكل مواد لتكون استرشادية للقضاة، وهي خطوة كبيرة لنشر ثقافة عودة القضاة لـ"كود" معين ليبنوا أحكامهم عليه، ولكن هذه الخطوة ليست كافية لمعالجة المشكلة؛ إلا أنها بالتأكيد خطوة مهمة، وهي أيضا ستكون محل اختبار وتجربة لتهيئ لخطوة أكبر وأقوى في المستقبل بإذن الله.

وهناك آلية أخرى وضعها النظام لمعالجة هذه النقطة؛ وهي المبادئ القضائية التي تصدرها الهيئة العامة للمحكمة العليا؛ إلا أن الدراسة ترى أن المبادئ فكرة جميلة ومهمة لمعالجة القضايا الكبرى التي تحتاج لاجتهاد كبار القضاة وخبرائهم، ولكن في الحقيقة لا يمكن لمثل هذه المبادئ أن تحل الفراغات التشريعية اليومية التي تصدر من خلال اجتهادات القضاة الفردية، فالمبادئ مهما كانت كثيرة فإنها بطيئة مقارنة بحجم الأحكام الصادرة يوميا، وليست آلية تلقائية لملء الفراغات التشريعية بشكل تلقائي، فعندما تشتري جهازا متطورا للتحكم في تسرب المياه مثلا فلن يكفي إطلاقا التحكم في فراغات متعددة ما لم يكن يعالجها بشكل تلقائي عند كل فتحة لتسرب المياه متى ما هطل المطر.

ولذلك؛ فإن الدراسة توصي بضرورة اعتماد المدونة الشرعية التي وضعها عدد كبير من العلماء الأجلاء لتكون ملزمة ولو بشكل تدريجي، بالإضافة إلى ضرورة اعتماد آلية الإلزام بالسوابق القضائية، وهي الطريقة المعتمدة عالميا لأجل استقرار الأحكام القضائية مما يفيد الوضوح أمام المستفيدين والشفافية أيضا.

وأود القول: إن الدراسة تعبر عن الرغبة الحقيقية لدى ولاة الأمر -وفقهم الله- في تحقيق أعلى مستويات العدالة والتطوير، وعند وضع دراسة عن أي مرفق فإن ذلك لا يعني إطلاقا التشكيك في كفاءة ونزاهة القضاء السعودي المميَّز، كما أن أحد المرشحين الأميركيين الديمقراطيين لورانس ليسي (أستاذ القانون الدستوري في جامعة هارفرد) قد وضع مشروعه الذي يتمحور حول وضع قانون جديد لمكافحة العنصرية، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد قوانين لمكافحة العنصرية المحظورة بالدستور الأميركي قبل القوانين!

ختاما؛ هناك الكثير من العمل التطويري حول القضاء منذ صدور نظام القضاء 1428، وحتى يومنا هذا، وهناك سلسلة إصلاحات متتالية لتحديثه وتطويره، ومن عمل في القضاء قبلها وشاهد القضاء اليوم يعرف أن هناك الكثير من التطوير والتحديث الذي نأمل أن يحقق أعلى مستويات العدالة وحفظ الحقوق.