كلما قرأت في تاريخنا السعودي القريب أدركت حجم الجناية التي ارتكبها التحزب في حق مجتمعنا، وازدادت معرفتي بأسباب ما نحن فيه من: احتقان، وتشرذم، وتصنيفات، واشتد إيماني بأن خلط الدين بالسياسة خلطاً متعمداً، هو العدو الرئيس للسلم الاجتماعي، والمقوض الأكبر لدعائم الأمن والوحدة الوطنية، والذريعة الجاهزة لتدخل المتربصين بنا في شؤوننا تدخلا قد يصل -لا سمح الله- إلى استخدام تلك القوى للقوة ضدنا، بذريعة محاربة التطرف والإرهاب.

وكلما لفتت نظري حادثة من حوادث تاريخنا القريب تخيلت ما سيكون من ردود الأفعال والأقوال، لو أنها حدثت الآن، لأصل إلى أن البون بيننا شاسع، وأننا قبل مطلع هذا القرن الهجري، لسنا الذين بعده، بعد أن بات مقياس التقوى هو الانتماء إلى حزب من أحزاب الإسلام السياسي، أو عدمه.

لكم أن تتخيلوا أنه قبل 83 عاما، كانت مجموعة من الأدباء والمثقفين مسؤولة عن ترسيم الحدود بين دولتين؛ لأنهم كانوا الأكثر وعيا وسلاما، والأقدر على احترام الآخر، والأبلغ عند التفاوض، والأعلم بالتاريخ بوصفه لازما من لوازم مهمة كهذه.

كان ذلك قبل أن يصبح الأدباء والمثقفون المستقلون "الجدار القصير" الذي تقفز فوقه الآيديولوجيات الحزبية على اختلافها واتفاقها، وقبل أن تصبح الإساءات المجانية إليهم احتسابا، وقبل أن يُصنّفوا، وهم آخر من يعلم أنهم ينتمون إلى هذا التيار أو ذاك.

ولكم أن تتخيلوا ما سيحدث لو أن مجموعة من الأدباء والمثقفين، كُلفت بمهمة وطنية كهذه الآن، وكيف ستقوم الدنيا ولن تقعد، لأن مجموعة من "الرويبضة" باتت مسؤولة عن تقرير أمر وطني مهم، وكيف ستذهب جحافل الاحتساب إلى أبواب المسؤولين محتجة ومستنكرة ومطالبة بتغيير هذا المنكر!

أزعم -على الدوام- أن مثل هذا الإنكار ليس لمنكر في ذاته، فهو غير موجود أصلا، وإنما هو لأن الأمر أوكل إلى غير حزب المُنكرين الهادفين إلى السيطرة على المفاصل الرسمية والمجتمعية كلّها، تمهيدا لما هو أخطر وأكبر، وليس لهم إلا إقحام الدين، لتسهل المهمة، وينقاد المؤيدون، وينبري المدافعون.

الحادثة التي أوحت لي بما كتبته أعلاه، هي ما ذكره محمد إبراهيم الحفظي، صاحب كتاب: "نفحات من عسير"، قبل أن يورد إحدى قصائد والده الشاعر إبراهيم علي زين العابدين الحفظيّ، حين قال: "تقدّرَ أنّه في عام 1354هـ، بَعثَ جلالة الملك الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود هيئة من رجال حكومته ومنهم والدي... لمقابلة هيئة من حكومة الإمام يحيى حميد الدين، لتقدير الحدود بين المملكتين، وكان مقرّ الهيئتين ظهران الجنوب، فكتبَ أحدُ هيئة الإمام... إلى هيئة صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز الأبيات الآتية..."، (ثم أورد الأبيات)، فأجابه إبراهيم علي زين العابدين الحفظيّ بأبيات امتدح فيها الملك عبدالعزيز، ومنها:

عبدالعزيز المفَدَّى..

أبو الرِّجَالِ الأسُودِ..

حامي حِمَى الدِّيْنِ فينا..

بسيْفِهِ والجُنُودِ

وكانت بين الوفدين معارضات شعرية لطيفة.

هذه الهيئة الحدودية مكونة من أدباء لم يشهد محيطهم التحولات التي تلت حادثة اقتحام الحرم المكي، ولم يعرف الصحوة ولا رموزها، ولا محمد سرور، ولا حسن البنا، ولم يقرأ: "جاهلية القرن العشرين"، أو "معالم في الطريق"، أو .. أو.. الخ؛ ولذا أدت مهمتها بسلام آمنة من التهييج ضدها، والتشكيك في وطنيتها.

بقية التخيلات لكم...