كم أعشق الكلمات وكم أشعر بالارتياح كلما قابلتني كلمة جديدة وبحثت عن الجذر والمعنى والاستخدامات المتعددة، وكم شدتني كلمات بل أجبرتني على تقدير قوتها؛ ربما كان ذلك لجمال تركيبتها أو لروعة معانيها أو حتى مدى التأثير الذي ستحدثه فيما لو استخدمتها في هذه العبارة أو تلك، فلم تكن بالنسبة لي سوى أدوات لطالما استخدمتها لإحداث التغيير الذي أنشده في مجتمعي الضيق والواسع، للتواصل مع نفسي ومع الآخر، ولتجاوز الخلافات التي تعكر صفو الحياة، أو استخدمتها للتحفيز والبناء، أو مفاتيح إلهام لعالم الأحلام والأماني أنتقي منها ما أحتاجه في كل مرحلة لأحوله إلى أهداف جديدة.
نعيش اليوم في عالم تحاصرنا فيه الكلمات بكل شكل وطعم ولون، كلمات صادقة وكلمات مضللة، كلمات تخرج من القلب وأخرى عبارة عن تركيبات بلا مشاعر وبلا روح، منها ما يجعلنا نفرح ومنها ما يجبرنا على الحزن أو حتى البكاء، منها ما يدخلنا في دوامات من الحيرة ومنها ما يرشدنا إلى شطآن اليقين، منها ما يجعلنا في حالة اندهاش ومنها ما يصدمنا، منها ما يزيد من مخزون المعرفة لدينا ومنها ما يرمينا في غياهب الجهل، منها ما يرتقي بنا للإنسانية ومنها ما يقذف بنا إلى نيران الهمجية، أول عن آخر هي كلمات لكن كيف نستقبلها ونتفاعل معها، تعتمد على مهارة من جمعها ورتبها بطريقة إبداعية أو هزيلة فارغة، ومدى استعدادنا للتقبل والاحتضان لتلك الأفكار أو المفاهيم؛ هل تدربنا على التحليل والمراجعة والتحقق من المعلومة بغض النظر عن طريقة العرض أو الإلقاء أو حتى شخصية حاملها، هل ندرك ماهية الكلمة وما تحمله من قوة؟ وهل كل إبداع في التركيب يعني بالضرورة فائدة، والعكس هل كل تركيب هزيل خال من رسالة هادفة؟ لا أظن، فهنالك من يبيعك الأكاذيب على أنها حقائق ببلاغة لسانه وتلاعبه بالكلمات، وهنالك من يخسرك لأنه لم يختر الكلمات المناسبة ولم يعرف كيفية عرضها.. كلمات كالترياق تُهدر وتضيع، وكلمات كالسم تُصيب الهدف وتنتشر! ولكثرة هذه النوعية من المبدعين، أدمنا السموم وأهملنا الترياق!
كم نصبنا محاكم لكلمات خرجت في لحظات يأس أو ألم أو تشتت، كلمات لو تركناها ولم نتوقف عندها لتناثرت واختفت كأوراق الشجر مع هبوب رياح الخريف، لو أعطينا صاحبها الوقت ليعود إلى طبيعته ويخرج إلينا بثمار جديدة لأنقذنا روحا ضائعة في فترة طيش أو تشتت، أوليس مجهودا ضائعا أن نحارب ما هو بالأصل خرج ليذهب مع الريح! كم من الكلمات خرجت بلحظة غضب فهدمت بيتا وشردت أسرة، وغيرها سُجلت ودمغ بها صاحبها لبقية حياته، هذا إن لم نحكم عليه بأن تنتهي حياته! نعم هنالك كلمات متأصلة بالشر، بل هي الشر نفسه، ولكن ليس كل ما يخرج أحيانا يأتي من قلب أسود، بل من قلب يتألم وروح يائسة تريد أن تصدم أن تنتقم لنفسها بكلمات عابرة سرعان ما يتراجع صاحبها إن أعطيناه الوقت وتفهمنا تلك اللحظات، بل مع مرور الوقت قد ينضج ويدرك الطريق الصحيح.. نحرم الغير من حق أن يراجع نفسه، أن يستيقظ من ظلمة ظروف خانقة ويأسف لكلمات تسرع في تلفظها أو تدوينها، ونغضب لحرماننا حق التوضيح والمراجعة إن تسرعنا وأخطأنا! لو أننا فقط نمتلك القدرة على التمييز بين الكلمات ذات الجذور القادمة من أعماق الشر والكلمات العابرة؛ لأرحنا وارتحنا! فكم هو فسيح صبرنا مع أنفسنا، وكم هو ضيق بكل آخر!
بين البناء والهدم؛ كلمة، تستطيع أن ترتقي بنفسك بأسرتك بمجتمعك بوطنك، وبكلمة تستطيع هدم كل ذلك! قد يسأل أحدكم: كيف وأحيانا لا أكون من تلفظ بها من الأساس؟! لأنها مرت عليك ولم تحكم عليها بموضوعية، بعقلانية، بحكمة، بإنسانية، وكيف تستطيع أن تحكم على هذا النحو إن لم يكن لديك أصلا مخزون ثري من الكلمات، إضافة إلى شهية لا تنتهي لتعلم المزيد؟! تستطيع ذلك إن دربت نفسك على استخراج المعنى والمغزى وحصنت نفسك من الاندفاع خلف الكلمات المبهرجة لمجرد أن أعجبك صاحبها أو أنها فقط جاءت على هواك! تستطيع إن أصررت على أن تكون أنت من يبحث ويحلل ويحكم ولا تسمح لأحد أن يملي عليك القرار، تستطيع إن استبدلت كل المفردات السلبية في قاموسك بالإيجابية وداومت على استخدامها مع نفسك ومع غيرك، تستطيع إن أعطيت غيرك الفرصة وأحسنت النية مع من تسرع وأخطأ، تستطيع إن أبقيت ذهنك متقدا يقظا، فلا تكن درويشا يتقبل كل شيء ولا تكن مستبدا يهاجم كل شيء.
تعلم كيف تتواصل مع إنسانيتك بعقلانية، وعقلك بإنسانية، لا تكن الحلقة الأضعف، بل كن السلسلة بأكملها؛ علم وفكر وروح يجمعها ويبقيها متماسكة إيمان وثقة بمن خلق الكون بكلمة.