القضاء في هذه المرحلة من تاريخنا العربي مثار للجدل؛ فقد تابعنا محاكمات رؤساء العراق ومصر كمثال، ويتم تعديل بعض قوانينه لمواكبة ما يستجد، بل وتتفاوت الأحكام من قاض لآخر.

وقد دعتني بعض الأحداث إلى استعراض تاريخي سريع لثلاث مناطق عربية؛ أولها: قانون القضاء في السودان مثلا، نجد أنه كان منظما من خمسة قرون ويقضي على مذاهب ثلاثة: مالكي وشافعي وحنفي، وبقي حتى تغير بدخول محمد باشا وتأثر القضاء بنظام الخلافة العثمانية.

أما القضاء المصري، فمنذ عهد الصحابة "كان لكل مذهب قاضيه وأتباعه، وإن ظلت السيادة والسطوة دائما للقاضي الحنفي، ولم يخل الأمر من نزاعات بين القضاة كان الوالي يتدخل لحلها" حتى جاء عهد محمد علي باشا والحملة الفرنسية والتحول إلى القضاء التركي فالفرنسي.

أما لدينا، فقد كان الأمر مختلفا؛ يقول بسام الحصيني عن القضاء في شبه الجزيرة: "كان القضاء -حتى عهد ليس بعيد- في شبه الجزيرة العربية يتمثل في قضاة أو ما كان يسمى في البادية -بالعارفة- يتم تعيينهم أو "اختيارهم" عن طريق الأمراء وأصحاب الشأن في المجتمع أو القبيلة مثل الأعيان والشيوخ ورجال الدين، وذلك من أجل الفصل فيما يعرض عليهم من نزاعات وقضايا تحدث بين الأفراد أو المجموعات أو القبائل.

وكان يلزم -مجملا- أن يكون القُضاة على درجة عالية من الأخلاق والاستقامة وبعد النظر، ومن أهل المعرفة والاطلاع بالعلوم الشرعية وفقه المعاملات، وذلك من أجل فرض نوع من القناعة بين أفراد المجتمع للرضا بتلك الأحكام بعد صدورها لإكسابها القوة التنفيذية اللازمة.

وغالبا ما يكون للقاضي -حسب درجته أو مرتبته العلمية ومركزه الاجتماعي- الكلمة الأولى والأخيرة للفصل في موضوع النزاع، وفي حالة عدم اقتناع الأطراف بالحكم الصادر، فإنه يتم اللجوء إلى قاضٍ ثان بمرتبة أعلى علميا أو اجتماعيا كنوع من أنواع الاستئناف.

القضاء بهذه النظرة السريعة التي لا تخفى؛ يُظهر أن قوة القاضي استمدت من قوة الحكم بالعدل كأساس لأحكام القاضي، فلو لم تقبل أحكامه فقد اللجوء إلى القاضي قيمته في إحقاق حق أو رفع ظلم.

واللافت على مدى التاريخ الإسلامي أن القاضي يتمتع بسلطة وقوة مستقلة عن الحاكم.

الوضع لم يختلف كثيرا اليوم في النظرة إلى القضاء وقدسيته، فالنبرة العربية التي تنزه القضاء وكأن القضاء تنزل به ملائكة نزلت من السماء أو يقرره أنبياء معصومون من الخطأ؛ ولا سبب منطقي يبدو لذلك التنزيه إلا لمنح أحكام القضاء ثباتا ومضاء.

قد نختلف في نظرتنا إلى القضاء بل تتباين مواقفنا من حكم لآخر، فمن يرفض سجن إنسان لرأيه المخالف لقوانين بلد ما، قد نجده ببساطة يطالب بقتل من تورط في الإرهاب أو شجع عليه، لأن هذا الحل الوحيد من وجهة نظره!

ومن يدعو إلى الديمقراطية والعدالة والرفق بالإنسان لا يجد غضاضة في الهجوم على حزب سياسي كالإخوان وإبادته، وصاحب الهوى الإخواني يقف على الطرف المضاد يطالب بإعدام المخالف!

نتداخل ونتدخل ونصبح قضاة مستقلين بآرائنا التي كثيرا ما تبتعد عن الصواب، وقد يكون نوعا من التنفيس عن الغضب لا أكثر، فحياة الناس وحرياتهم ليست منوطة برغبات العامة.

اليوم، القضاء أصبح في مرمى سهام المعلقين والمؤيدين والمناوئين له، ومع أننا لا ندرك التفاصيل الدقيقة التي تدفع القاضي إلى إصدار حكم ما، إلا أن هناك ما يخرج مثيرا للجدل لأنه شاع، وإلا فعشرات الأحكام تصدر ولا يسلط عليها الضوء. القضاء في كل مكان وزمان له أخطاؤه وربما كان أحد المتخاصمين ألحن بحجته من الآخر فقضى له القاضي.

حاليا، تدور محاكمة قامت بها إحدى عضوات مجلس الشورى ضد مغرد تهجم عليها، ووصفها بصفات تدخل ضمن الجرائم المعلوماتية، إلا أنها لم ترد عليه، بل لجأت إلى القضاء وحسب، ولا أخفي عليكم سعادتي أن تنتصر امرأة أخيرا ضد هجوم شن عليها ظلما وعدوانا، خاصة أننا من منتصف ثمانينات القرن، وباعتراف أحد المغردين، أنه كان يلفق القصص على النساء وينشرها من باب الدفاع عن الإسلام!

ولليوم ندهش من هجوم على النساء لا مبرر له تشتم وتشنع وتهاجم الناس ببذاءة في الداخل؛ فما يحدث باسم الإسلام لا يمكن أن يكون إسلاما أبدا، فليس المؤمن طعانا!

ثقافة مع فكرة يساوي بالضرورة ضد الفكرة المختلفة تحكم بعضنا لدرجة الإقصاء والتخوين والتفسيق؛ وقد تعرضت عضوة الشورى للهجوم لأنها تطالب بقوانين تحفظ حق المرأة في أبنائها، وهي معاناة زوجة المعدد والأرملة والمطلقة وهذا أبسط حقوقها لتتحرك بأبنائها بما يخدم حاجتها وحاجتهم.