قبل عدة سنوات أهدى لي أحدهم كتاب "حواديت التاكسي" لمؤلفه خالد الخميسي، وهو مجموعة من القصص القصيرة التي استخلص الكاتب خلالها مزاج الشارع المصري عبر نقاشات عابرة خاضها مع سائقي سيارات الأجرة في مصر.
وقبل عدة أيام صادفني موقف مماثل لكن في فرنسا، وتحديدا داخل سيارة أجرة أوصلتني إلى المطار للحاق برحلتي المتجهة إلى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث أوقّع في معرض بيروت الدولي للكتاب باكورة أعمالي الأدبية، وهو عبارة عن كتاب شاركت في تأليفه إلى جانب مجموعة من المثقفين والإعلاميين العرب الذين اختاروا عاصمة النور يوما ما مكانا لإقامتهم، تحت عنوان "باريس كما يراها العرب".
فابريس، وهو اسم السائق الفرنسي الذي تكفل بمهمة توصيلي وفتح باب النقاش معي، اهتم لأمر هذا الكتاب بعد أن شرحت له باختصار ماذا تعني باريس لنا نحن كعرب، أخبرته أن ألمنا على مصابها كان مضاعفا، فهي التي احتضنت كل من جاءها منا طلبا للعلم أو العمل أو حتى الملاذ الآمن فلم تبخل عليه بشيء، ولم نكن نأمل يوما أن نشهد في شوارعها منظرا مفجعا كالذي شهدناه في جمعتها السوداء.
أدهشني حينها رده عندما قاطعني قائلا: "لكننا لم نتفاجأ سيدتي، هذا أمر طبيعي لسياسة الإهمال والتجاهل التي انتهجها الغرب تجاه الشرق الأوسط منذ عدة سنوات، فالأزمة هناك ليست جديدة والاقتتال الطائفي حصد أرواح الملايين من الأبرياء، لكن الأمر لا يعني السياسيين هنا طالما أن القتلى من العرب، وكان عليهم أن ينتظروا حتى تهاجم باريس بهذه البشاعة كي يقرروا توحيد جهودهم والتحرك ضد "داعش"، هذا بالنسبة لي لا يعني سوى أمر واحد، وهو أن دماء 130 فرنسيا هي أغلى من دماء مئات الآلاف من العرب ممن سقطوا ضحايا لهذا الإرهاب الأعمى منذ أن ارتكبت واشنطن حماقتها الكبرى باجتياح العراق".
كلامه كان مفاجئا بالنسبة لي، خاصة وأنا أراقب عن كثب الانتخابات المحلية التي شهدتها فرنسا هذا الأسبوع، وكشفت عن صعود طالما اعتبر مقلقا لحزب اليمين المتطرف، ما يغذي مخاوف كثيرين من ظاهرة تنامي الإسلاموفوبيا في كل أنحاء البلاد، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لكثير من الفرنسيين كما قال لي فابريس: "أنا لا أعرف كثيرا عن الإسلام، لكنني أعرف كثيرا من رفاقي المسلمين منذ الطفولة، لا أعتقد أن من يقوم بهذه الفظاعات يمثل أي دين أو طائفة، هو لا يمثل سوى حقده على نفسه التي يقدمها قربانا للشياطين أولا، قبل أن يسهم في تلك المجازر".
يصمت لبرهة ثم يضيف: "يؤلمني ما شهدناه في باريس، ولكن ما يزعجني أكثر تلك الإشاعات التي يتداولها البعض عن مضايقات يتعرض لها العرب والمسلمون هنا.
عشنا فترة صعبة بعد الأحداث، لكن باريس لن تستعيد ابتسامتها إلا بعودة زائريها، ولن تزدان أنوار أعيادها التي اقتربت مع نهاية العام إلا بعودة سائحيها، فإذا وصلت إلى لبنان انقلي للجميع هذه الدعوة، قولي لهم إن باريس لن تتغير وستبقى مكانا آمنا لكل من يطرق أبوابها".
وصلنا إلى المطار وكنت أتمنى أن يطول الطريق أكثر، لأستمع إلى مزيد من "حواديت" سائق التاكسي الفرنسي الذي جعلني أفخر حقا بما نقلته في كتابنا المشترك، وأفكر مليا في كتابة مذكرات شخصية تروي عشقي الأبدي لهذه المدينة.