لماذا يستسهل الناس بكتابة النص المسرحي؟! فهو أصعب إنتاج يقدمه مبدع على الإطلاق؛ فإذا ما أخفق فلا يقتصر الإخفاق على ما خطته يداه فحسب، إنما يمتد إلى مستويين الأول: فشل العرض، والثاني: فشل التلقي! وربما يصل إلى حد الضرر بالمزاج العام للمشاهد، وربما يؤثر على طاقته الروحية نتاج تخلخل كيمياء جسده من مثيرات ومؤثرات تلعب دورا كبيرا في ترتيب وانسجام المزاج العام، جراء التأثر بالصورة وما تحدثه من تعامل كبير مع الوجدان أو ما يسمونه (الأميجدالا)، وهي تقبع أسفل المخ والمسؤولة عن إصدار اللذة أو الكدر! فهل يجرؤ الكاتب على تأليف نص مسرحي وهو يعلم أنه سيضر بالمزاج العام للمتلقي دون دراية إذا ما كان غير متمرس في الكتابة المسرحية؟. إنه نوع من التعاطي يشبه تجرع الدواء الفاسد!
لقد خلَّد مخرجون مثل "ستانيسلافسكي، جون فيلار، باترس شيرو، بيتر بروك...." أسماءهم ليس لخدمة نصوص مسرحية هزيلة وضعيفة فنيا ودراميا، ولكن لخدمة نصوص قوية، مؤثرة، ممتعة وجذابة كنصوص شيكسبير، وتشيكوف، وهنريك ابسن، ويوجين يونيسكو، ولويجي بيرونديللو، وهارولد بينتر، وموليير، وغيرهم.
ولذا فإن فن الكتابة المسرحية ليس موهبة ترسل كما في الشعر أو القصة وإنما يرتقي إلى العبقرية.
والعبقرية كما عرفها "شوبنهاور" هي قدرة الفنان على إدراك ونقل ما يتجلى له من الأبدية/ اللانهائية، وعرفها أفلاطون بـ: التجلي أمر تخيلي، وليس عقلانيا، وفي اللحظة التي يتحول فيها الفن لمجرد ممارسة عقلية، فإن الفن وقتها لا يكون وسيلة للعبور إلى الأبدية. وبالنسبة للناس الذين لا يتمتعون إلا بالموهبة: "الموهبة تصيب الهدف الذي لا يستطيع أحد إصابته، بينما تصيب العبقرية الهدف الذي لا يستطيع أحد رؤيته".
وهنا تكمن الصعوبة حيث نكتب نحن على حد السيف بين الوعي الكامل وإعمال العقل، وبين الانفلات من أغلال الوعي، فكيف نستطيع ذلك. "الانفلات من أغلال الوعي في التخيل، والوعي التام في عملية البناء وكلاهما يجتمعان في حس واحد وفي ذات اللحظة للكتابة"!.
الانفلات من أغلال الوعي لتحقيق الخيال الخصب الرحب الخلاق المتجول في عوالم لم تخطر على بال بشر من ذي قبل، وفي ذات اللحظة يكون واعيا تمام الوعي لكي لا يفلت منه إوار البناء والمعايير، فهي معايير معملية تنتج تلك الكيمياء التي تتسرب إلى الوجدان في نهاية الأمر. صناعة شاقة ومريرة إلا أنها ممتعة حين تتزاوج المتعة مع المرارة، كذلك التزاوج بين الوعي واللاوعي! (إنه السوبر وعي)، كما أطلقت عليه أي "العقل الكوني أو الكوزمك مايند Cosmic Mind) )، هو ما يتوسط هذا الصراع فيحسمه بين الإلهام والجنون والوحي - والتي أجهدت كثيرا من المنظرين على مدار تاريخ الكتابة المسرحية- وبين الوعي بالذات لحظة الإبداع. فيكون المبدع في منطقة محرمة على غير العباقرة! هي منطقة ما فوق الوعي؛ وبالتالي يحتفظ المبدع بوعيه إلا أنه يكون بعيدا عن الوعي البشرى غير مقيد بأغلال الوعي. فهو ذلك الانفلات من تلك الأغلال إلى فضاءات كونية رحبة، ولكن بالوعي الأعلى "السوبر" النقي الشفاف، خلال لحظات الاستبصار حين يفتق الفكر بجميع مستوياته وتفتق الشرنقة وينهمر الخيال من خلال البعد المعرفي لدى المبدع وحصيلة إطاره المرجعي بدون شك.
إنها لحظات من "الفينومينا" التي يطلق عليها الصوفية لحظة الوصل! ومن الخطورة على الكتابة المسرحية أن يعتمل قلم الرصاص كما يفعل البعض، فيكتب ثم يقرأ ثم يمحو ثم يكتب، مما يجعل نفسه رقيبا على الكتابة، والكتابة المسرحية لا تجتمع مع الرقيب الذاتي على الإطلاق.