منذ عسكرة الحركات الاحتجاجية، التي حدثت في بعض البلدان العربية قبل 5 سنوات، باتت قضية الإرهاب موضوعا عالميا بامتياز، خاصة بعد أن طال لهيبه عددا من العواصم الأوروبية، آخرها الهجوم على العاصمة الفرنسية باريس. وأيضا ما حدث قبل عدة أيام من هجوم إرهابي، وإن كان محدودا جدا، في ولاية كاليفورنيا الأميركية.

لا يكاد يمضي يوم إلا ونسمع ردود أفعال دولية تطالب بضرورة صياغة تحالف عسكري دولي لمناهضة الإرهاب. وبالنسبة للبلدان العربية، فإن نصيبنا من الإرهاب هو حصة الأسد، حيث تعاني معظم البلدان العربية من نتائجه. فقد كان من حصاده الباهر فقدان 4 أقطار عربية استقلالها وكياناتها الوطنية، وافتقدت شعوبها أمنها واستقرارها، وأصيبت في أملاكها وأعراضها. وقد تسببت حالة الفوضى والخراب في هروب أكثر من 20 مليون عربي من محارق الموت، وباتوا بحكم المشردين، خارج أوطانهم.

ومنذ بداية انتشار الإرهاب في منطقتنا العربية، بعد عودة "المجاهدين" من أفغانستان، وبشكل خاص بعد حوادث 11 سبتمبر 2001، وما تبعها من احتلال لأفغانستان والعراق، صدرت مئات الدراسات التي تحاول تفسير هذه الظاهرة. وقيل الكثير عن أسبابها، وما قيل في هذا السياق معروف، لا حاجة لنا بتكراره.

لكن المؤكد، وأيا تكون أسباب انتشار ظاهرتي التطرف والإرهاب، أن من يستقطب الشباب اليافعين لهذه المحرقة، وبغض النظر عن موقفنا من سلوكه، هو فرد يملك من المؤهلات الفكرية والنفسية، ما يجعله قادرا على استقطاب الآخرين، بمنهجه وطريقته، وإقناعهم بأن يكونوا جنودا أو وقودا للمحرقة. وهو هنا بطريقته، يبرز في مخيال الشباب اليافعين الذين يدفع بهم إلى محرقة الموت، قائدا كاريزميا ومثلا أعلى، يحتذى به. وما كان بالإمكان تحقق ذلك، وانتشار هذه الظاهرة المحزنة، لولا غياب المثل الأعلى للفكر التنويري، الذي ينافح من أجل شيوع السلم الاجتماعي والحفاظ على أمن الأوطان واستقرارها.

هناك فراغ كبير في عموم الساحة العربية، على كل الأصعدة، تسبب فيه ما يمكن أن نطلق عليه مجازا بنهاية عصر النجوم. فالفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى كانت زاخرة، على امتداد الساحة الدولية، التي نحن جزء منها، بنجوم سياسة، ونجوم حرب، ونجوم فكر، ونجوم فن، تمثيلا وإبداعا وأدبا وغناء، وفنونا تشكيلية، ورياضية.

على الصعيد السياسي والعسكري والفكري والفنون؛ برزت أسماء لامعة. وفي الفنون دخلت هوليوود بقوة في صناعة الأفكار وتوجيه الذوق. وبرز فنانون مبدعون، شعراء وروائيون وكتاب ورسامون على مستوى عالمي. في الوطن العربي كان التنافس محتدما بين الفنانين في المشرق، من مصر وبلاد الشام. وبرزت أسماء لامعة في الطرب والمسرح ودور العرض. والقائمة في هذا السياق طويلة.

لقد كانت المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مرحلة نجوم بامتياز. وكان لكل فرد من هؤلاء مريدون ومؤيدون وأتباع ومشجعون، كل حسب أنشطته. وكان الصراع بين الشباب لا يحتدم حول الأفكار بين المثقفين، أما البقية فينقسمون في مواقفهم ورؤاهم حول بقية الأنشطة الإنسانية، التي بزغت في العقود الماضية، وبمن يجسدها.

في المدارس المتوسطة، كما في المدارس الثانوية والجامعات، انقسم الشباب على قاعدة انحيازهم وتشجيعهم لهذا المبدع أو ذاك. وبين المثقفين العرب حضرت بقوة أفكار سارتر وكامو ودوفوار. لم يكن هناك فراغ بين الشباب، فالكل محكوم بموقفه وهواه. والحال هذا ينسحب على تأييد القادة والسياسيين. وكان تأثير الحرب الباردة بارزا في تلك الانقسامات، وأيضا على كل الأصعدة.

في العقود الأربعة الأخيرة؛ بهت عصر النجوم، وتزامن ذلك مع تنامي ما عرف بالصحوة الإسلامية من جهة، وقيام الثورة الإسلامية في إيران. وتزامن هذا البهوت مع ثورات علمية واسعة في مجال الاتصالات والبيولوجيا، والتكنولوجيا الرقمية. غاب الكاريزما والمثل الأعلى، والمبدع النموذج، وانتهى ما عبرنا عنه بـ"عصر النجوم". ومع الغياب تراجع اليقين. وسادت في أوساط الشباب حالة من الضياع. وبدأ الشباب رحلة البحث عن يقين، يقيهم من حالة الفراغ والاغتراب. ولم يعد بد من العودة إلى الموروث، فالأمة حين تواجه بحالة انهيار -كما يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي- تستمد مقاومتها من إرثها، فهو الحائط المنيع في مواجهة الغربة. وأسهم في هذا التوجه احتلال الشيوعيين لأفغانستان، مما أطلق جذوة الإيمان بضرورة مواجهة الكفر في دار الإسلام.

ولأن الاندفاع كان عاطفيا وقويا نحو التطرف، حيث ساد اعتقاد لدى هؤلاء الشباب بأنه الدواء العليل للقضاء على حالة الضياع والغربة، لم يعد هناك مجال للتأمل والتفكير، وقراءة التاريخ، وإدراك استحالة استنساخ الماضي، لأن لكل زمن شروطه وأدواته الخاصة. والنتيجة هي ما شهدناه من تغول تنظيمات التطرف والإرهاب، الموجهة أساسا ضد السلم الاجتماعي، وعموم المنطقة من تكفير المجتمع، وفقا لتنظيرات سيد قطب في "معالم في الطريق".

الوطن العربي بأسره يعيش حالة ضياع وغربة، بلغت سلبياتها حد مصادرة الأوطان، والقضاء على الهويات الوطنية. وضحاياها في أقل تقدير أكثر من 20 مليون مهجر عن أوطانهم، عدا آلاف الضحايا ممن سقطوا بفعل محارق الموت.

إن ذلك يلقي على المثقفين المستنيرين مسؤولية التصدي للفراغ، وإيجاد مخارج عملية، تضيف طاقات هائلة جديدة وسط الشباب. وتشع على عموم بلادنا العربية، بحيث تسهم في عملية ملء الفراغ الذي تعيشه البلدان العربية، الفراغ الذي كان من نتائجه المريرة فقدان السيادة والحرية والأمن والاستقرار في بلدان لا يستهان بدورها في مشروع النهوض العربي.