يروي المبرد في (الكامل) "أن الخوارج كانوا إذا أصابوا في طريقهم مسلماً على خلاف معتقدهم، قتلوه لأنه عندهم كافر، وإذا أصابوا نصرانياً استوصوا به وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم، وقد حكي أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأصحاب الرفقة: اتركوا الشأن لي، اعتزلوني ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب من الخوف، فقالوا: شأنك. فخرج واصل إلى الخوارج فقالوا له: ما أنت وأصحابك؟ قال: قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده. قالوا: قد أجرناكم. قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونهم أحكامهم، ويقول واصل: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فقد صرتم إخواننا. فقال: بل تبلغوننا مأمننا، لأن الله تعالى يقول: "وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يبلغ مأمنه"، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلكم لكم، فساروا معهم جميعاً حتى أبلغوهم المأمن".

تنسجم هذه القصة في نظري مع الطريقة التي نراها مهيمنة على ذهنية الكثير من الجماعات المسلحة المعاصرة، إلى درجة قد تقودني إلى تجويز مثل هذه القصة لو أن هناك من حكى وقوعها في بعض المناطق التي بات يهيمن عليها "داعش" اليوم.

تكشف هذه القصة في أظهر مستوياتها علتين تشتكي منهما هذه العقليات الإرهابية، أولاهما انطلاقها من رؤية تسلب الآخرين حقهم في الوجود، فالأصل عندهم ألا يوجد سواهم في العالم، أما أمر اليهود والنصارى فهو الاستثناء عندهم لعجزهم عن تجاوز الوضوح التاريخي في التعامل معهم وفق قواعد الذمة والمعاهدة في أدلة لا يستطيعون دفعها، ولكن لأن مخالفيهم من المسلمين لا يمتلكون مثل هذا المستند القانوني في شرعتهم فإنهم يعودون بهم إلى الأصل الذي ينطلقون منه وهو سلبهم حق الوجود والحياة. أما العلة الثانية فهي تحجر أفهامهم على القراءة الحروفية حيث لا يتعدون بأفهامهم استيعاب النصوص المباشرة، وهذا ما تنبه إليه واصل بن عطاء رحمه الله فاختار لهم نصاً مباشراً قاطعاً في دلالته ولم يفعل أكثر من تنزيله عليه بادعاء كونه من أهل تلك الصفة التي تتكلم عنها الآية. ولكن عند النزول إلى مستويات أعمق في تناول هذه القصة قد نقف على بعض الأمور التي تتسم بها سيكولوجية المتعصب الديني على وجه الخصوص، وهي أن أكثر ما يقلقه ليس الخروج السلبي من الدين بل الحوار النشط حول ما يدين به المتعصب، فالحوار وليس اللادين هو أشد أعداء المتعصب الديني. هذا ما استوعبه ابن عطاء جيداً فعمل على إخفاء أكثر ما يثير عداء أولئك المتطرفين وبادرهم بالجاهزية الكاملة للتسليم والتلقي، وهو أقصى ما يرتاح إليه هؤلاء في العادة، ولن يتاح مثل هذا بطبيعة الحال إلا بالإقرار المسبق بالخروج من دائرة الحوار المقلقة لهم، أي من الدين نفسه.

من المهم أن نفهم أن سمة القلق من النظير إذا كان محاوِراً والارتياح إلى المغاير إذا كان متلقياً، سمة عامة في كل المتطرفين، ولعل هذا ما يفسر انزعاج بعض الجماعات الدينية من المثقف الصالح الذي يختلف معهم في بعض الأفكار أضعاف انزعاجهم من الشخص الذي يمارس ما يعتبرونه فسقا إذا كان ذلك الفاسق متلقياً سلبياً لما يدعون له من أفكار.

"لا ينبغي أن ترى أن حلق اللحية أمرٌ مباح، فخيرٌ لك أن تحلقها معتقداً حرمة ذلك سائلاً الله الهداية من أن تعتقد إباحة حلقها".. كنت أسمع هذه العبارات وشبيهاتها قبل سنوات، وكنت أتعجب كيف تكون ممارستي لأمر أعتقد حله أبشع من إصراري على ممارسة أمرٍ أعتقد حرمته، وأتساءل: أي الموقفين هو الأكثر استحضاراً لمقام الله وخشيته؟ فهمت بعد ذلك أن الأمر في معظمه ليس أكثر من حيلة نفسية لتخدير قلق الحوار، فالأمر متعلق بسيكولوجية التعصب أكثر من تعلقه بأي رؤية دينية. ولعل هذا ما يفسر المفارقة بين المجاهرة النظرية لكثير من المتعصبين بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف في حين أن أغلب ما يمارسونه عملياً من إنكار لا يكون إلا في مسائل الخلاف، ذلك أنها مرتبطة أكثر من غيرها بقلق الحوار الذي يكرهه المتعصب بشدة.

من الأمور التي أتذكرها من أيام الدراسة ذلك النوع من التلاميذ الذين كان معظمهم يكره نقاش ما ذاكره قبيل دخوله للامتحان، فإذا حاول أحدهم نقاشه رد عليه: "الله يخليك لا تلخبطني". يشعر ذلك التلميذ بهشاشة البناء الذي راكمه في ذاكرته وفق نظام معين لا يجيد غيره فيتهرب من النقاش آملاً ألا يتحداه الامتحان إلا بما يتوافق مع النظام الوحيد الذي أقام عليه معلوماته. كثيراً ما أشعر أن المتعصب يقلقه الحوار لأسباب مشابهة. كل ما في الأمر أنه ليس بوداعة صاحبنا الذي يقول: (الله يخليك لا تلخبطني) بل يتجاوز ذلك أحياناً إلى: سأقتلك حتى لا (تلخبطني).