كان لي شرف حضور محاضرة معالي وزير العدل د. محمد العيسى مساء الثلاثاء الماضي في أروقة الجامعة الإسلامية بالمدينة، تلك الجامعة التي أصبح حضورها الثقافي وتجديدها الفكري ونشاطها المشهود للجميع يأخذ منحى تجديداً، جعل الجامعة تتفاعل مع قضايا المجتمع وتواكب تطوراته وتحولاته، بفضل ذلك الرجل المنفتح والمتواضع والنبيل، معالي مدير الجامعة الدكتور: محمد العقلا الذي يشهد له كل من عرفه أنه استطاع خلال بضع سنوات أن ينقل الجامعة من حيز الفعل الأكاديمي التقليدي الضيق إلى حيز الفعل الثقافي المنفتح والمتفاعل مع المجتمع وقضاياه، وكان منها محاضرة وزير العدل: التي كان عنوانها: ( القضاء السعودي بين أصالة المنهج ورغبة التطوير).

المحاضرة كانت زاخرة بالكثير من المعلومات التي قد تغيب على رجل علاقته بالجانب القضائي علاقة بسيطة لا تتعدى ما يثار بالصحف أو ما يسمعه في المجالس أو ما يتماس معه شخصياً بوصفه مواطناً لابد من أن تكون له قضية لها اتصال بالجانب القضائي من هنا أو هناك، وجاء وزير العدل في محاضرته تلك، ليحاول تصحيح الكثير من الالتباس في التصور العام عن قضائنا السعودي متسلحاً بالتقارير والإحصاءات والأرقام والنِّسَب التي ذكر جزءاً منها في المحاضرة، كما أنه تعدى إلى مقارنة قضائنا السعودي مع القضاء في الدول العربية أو الدول الغربية كعدد قضاة المملكة عن غيرهم على اعتبار مثالية عدد القضاة السعوديين حيث يفوق عددهم النسبة المعمول بها عالمياً أو مقارنته الوقت التي تستغرقه الأحكام القضائية، حيث سرعتها في القضاء السعودي عن غيره في بعض الدول الأخرى على حد قول معالي الوزير، وهذان مثالان من أمثلة المحاضرة وليس حصراً.

من الصعب الإلمام بجميع القضايا التي أثارها الوزير أو أثارها المداخلون من الحاضرين والحاضرات، ولأهمية القضايا التي أثارها، فإننا نأمل من المسؤولين عن ترتيب المحاضرة أن يعملوا على تفريغها ونشرها في الصحف، أو نشرها في موقع الجامعة ليتسنى لمن أراد الاطلاع عليها.

لقد نحى الوزير في محاضرته ومنذ بدايتها، وأكد على ذلك كثيراً وبشكل واضح وصريح إلى فك الخلط بين جانبين: الجانب الموضوعي الذي يدور في إطار مادة الأحكام القضائية باعتبارها مواد مستنبطةً من أحكام الشريعة الإسلامية، وهي مادة وإن داخلها الكثير من الأشكال القضائية والإجرائية الحديثة من بعض الدول الأخرى إلا أن لها سندها الشرعي الذي تتكئ عليه، وذكر الوزير أنه لاجدال في هذا الجانب باعتبار أن الجانب الموضوعي مستمد من الشريعة التي قامت عليها هذه الدولة وهي مفهوم الأصالة التي كانت أحد محاور المحاضرة.

أما الجانب الآخر فهو الجانب الإجرائي وهو الجانب التنظيمي أو الهيكلية القضائية وهو ما يدور في إطارها التطوير والتجديد، والتي يمكن الاستفادة فيها من الآليات الجديدة في تطوير القضاء، وهو بحسب رؤية الوزير، الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، مشيراً إلى أن اللبس بين الأمرين سبّب لدى كثير من الناس خلطاً وإشكالات كثيرة.

وقد كانت جل المحاضرة تدور في جانبها الإجرائي، والتي يمكن تسميتها بالمعاصرة لتتساوق مع الرؤية العامة في التوازن بين الرؤية المحافظة أو كما يحب تسميتها: "أصالة المنهج"، والمعاصرة أو كما هي في العنوان :"رغبة التطوير".

محاولة المزج هذه بين التمسك بأصالة المنهج من جهة والتطوير من جهة جعلت من المحاضرة تركز أكثر على عمليات التطوير التي حصلت، وتحصل خلال السنوات الأخيرة، ومن ضمنها مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير القضاء، لكن الوزير يؤكد أيضا أن عمليات التطوير كانت إعادة صياغة أكثر منها تطويرا في البنية الأساسية للقضاء على اعتبار صلاحية القضاء كونه قام على أسس قوية ومتينة ولذلك فهو يرفض كلمة "الإصلاح"، ويفضل استخدام كلمة "التطوير" كبديل يؤكد على تلك الرؤية.

ولعل تركيز المحاضرة على الجوانب الإجرائية، وهي جوانب بلا شك مهمة، وقد أوضح الوزير جزءا كبيراً منها بشكل مبهج.. أقول: لعل تركيزه على الجوانب الإجرائية جعلت المداخلات تدور هي أيضا في جانبه الإجرائي متجاهلة الجانب الموضوعي، وربما كان لحساسية التعامل معه دور في ذلك أيضاً، لكن يبقى مجال تقنين الأحكام القضائية أو كما سماها الوزير : "تدوين الأحكام القضائية" يدور في جزئية منها في الجانب الموضوعي، وإذا عرفنا أن الشريعة الإسلامية كبيرة وواسعة جدا، يجعل من عملية التقنين مهمة كبيرة، وربما هي المهمة الأكبر في مسألة القضاء وقد أشار الوزير لها في المحاضرة لكنني أراها تحتاج إلى تفاصيل أكثر وربما محاضرة بحالها لأهمية هذه المسألة، وليست جزئية أو محوراً من محاضرة حول القضاء بكامله.

أيضاً.. فإن كل عمليات التطوير إذا لم تهتم بتطوير القضاة الذين هو على رأس العمل حالياً، ويتماسون مع الناس، ويتعاملون معهم مباشرة، فإنه سوف يبقى تطويراً لم تكتمل أركانه، وربما كان تطوير القضاة أنفسهم هي أهم نقطة بعد تقنين الأحكام القضائية لأنهم المعنيون بهذا التنظيم، وآليات تطوير القضاة تحتاج إلى جهد مضاعف تبدأ من قناعة القاضي نفسه قبل الشروع في عملية التطوير ذاتها.

لقد جاءت هذه المحاضرة لتؤكد أن عملية تطوير القضاء من أهم القضايا في مشروع الإصلاح الذي يتبناه خادم الحرمين الشريفين ويعمل عليه منذ فترة طويلة، كما تؤكد على أهمية ربط الجامعة بقضايا الناس وهذا ما فعله المسؤولون في الجامعة الإسلامية من خلال هذه المحاضرة التي أعتقد أنها تمس الناس مباشرة وتتقاطع مع مصالحهم اليومية.