من فضول الكلام الحديث عن العولمة والتواصل الذي حول العالم لما يشبه القرية الصغيرة؛ لكن التحول مدخل لا بد منه لنصل إلى نقاط كثيرة أوصلتنا إليها العولمة مع التغيير الطبيعي الذي يتواكب مع سنن الحياة، إلا أن العولمة سرعت من الإيقاع وربما تفوق التابع على المتبوع، كما تفوق إنتاج الهند السينمائي على الإنتاج الأميركي الأشهر!
العولمة تحكمت في طعام الناس وشرابهم وخيارات المساكن والأثاث والحياة؛ بل وتحكمت حتى في ملامح البشر على الأرض بعمليات التجميل التي يحاكون بها النجوم، أو يحاكون بها على الأقل من سبقهم لها. لكن في ذات الوقت الذي صنعت نسخا متشابهة من الناس حين تماهت الشعوب معها إلا أن من عمقها بدأ الاختلاف يظهر من جديد، فالثقافات والذائقة التي استمرت آلاف السنين لا يمكن أن تقبل الاختزال في شكل ولون وخيار أوحد أو متشابه، فبدأت أنواع من المطاعم والوجبات السريعة تقصي المطاعم الأم التي سكنت المدن خاصة في شوارعها الأشهر!
انتقلت المصانع من الغرب للشرق، فحاربت آيفون جالكسي وقاضتها ثم عادت لتعتمد عليها في تصنيع بعض ما يخصها وتحالفت معها!
هذا ما يحدث للثقافة المختلفة الإصرار على المنافسة يحدث أيضا في مجال الفنون والآداب.
نموذج آخر لو نظرنا إليه في البلدان التي عانت في مراحل الاستعمار للبلاد العربية كان الأدب منبرا حرا يتحرك ضد المستعمر وحرك الشعوب وهون من شأنه ثم هدأ بعد خروج المستعمر وتفرغ للجماليات ونقد المجتمع الجديد الذي حمل شعارات جديدة. كذلك الثقافة كانت تفرض نفسها بشكل شرس في رفض المستعمر، تهدأ وتعود لحل مشكلاتها بالتعليم ومؤسسات المجتمع المدني: لكن السؤال كيف يحدث ذلك اليوم؟!
هذه المرحلة من التواصل الإنساني وتشكل الولاءات الجديدة عبر بث قناعات جديدة كأفكار خلاقة في تنمية الذات، أو نشر حقائق كما يحدث من خلال تعريف العالم بما يحدث في فلسطين من اليهود المحتلين؛ جعلت من الغريب الذي أدرك ما يحدث من حقائق مؤلمة على الأرض حليفا قد يرفع لافتة أمام سفارة العدو الصهيوني في بلده وأصبح التواصل بذلك نشرا لما يحدث وطلبا للتعاضد من الخارج؛ في الوقت الذي قد لا يملكه المواطن في بلد منكوب كبلدان الصراع إلا الفرار بجلده من الموت أو البحث عن وطن أو حبة دواء تكبح شر مرض يفتك به، وقد يكتفي بعد الانتهاء من كسب قوته وفي أو قات فراغه من عمله بالهروب من التفكير فيما يحدث له ولوطنه فيتسكع في أحد المتنزهات، بينما هناك من يشاطره معاناته وهو لم يعرف عنه إلا أنه أصبح بلا وطن صالح للحياة!
الثقافة والتواصل اليوم لا يخفى تجاور منافعهما مع أضرارهما، فكما تقدمان الجميل والجيد وتدعمان وتساندنان وتحثان؛ تحرضان وتفككان وتهاجمان وتزوران أيضا بناء على ما يحمله ناشرهما من توجهات وميول، وهما ككل ما حولنا سلاح ذو حدين ينفع للإنتاج والإبداع كما يمكن أن يتحول للهدم والتدمير والعياذ بالله.
في المنتصف وقف المباح والمستحب والمكروه؛ ولطالما سألت نفسي: بماذا سيسمى عصرنا بعد عشرات أو مئات السنين وبخاصة القرنين العشرين والحادي والعشرين؟!
كنت أظن في مرحلة أنه سيسمى عصر الكمبيوتر والتقنية، لكن هذه التسمية ليست منصفة وأزاحتها فكرة العولمة حتى حلت التقنيات الجديدة فقلت هي الأولى فسيكون مسمانا ما قبل وأثناء عصر النانو مثلا، إلا أن ما يحدث اليوم من تحولات ثقافية وتغييرات سكانية وكوارث تدخل فيها الإنسان أو لم يفعل يشير إلى أن المسمى الذي يطلق على العصر لا بد أن يكون ثقافيا، فالمفكر باومان أسماها الحداثة السائلة ووصفها بصفات منها: تغير الحدود وتدفق المرغوب والممنوع وغيرها، وقد تحدث الأستاذ الدكتور سعد البازعي عنها في محاضرات ومقالات وهي فكرة مدهشة تختصر العصر في ثقافة متنقلة ومتحولة حسبما فهمت.
إذا عصرنا هذا عصر التحولات الثقافية والذي ينجح به هو من يكون مؤثرا في خلق ثقافة أو رعايتها أو إحيائها، النجاح مرهون بإدراك خطورة التأثير على الثقافة التي ببساطة شديدة استطاع بها الدمويون استقطاب المجرمين وإتاحة الفرصة لهم للإبداع فيما يحسنون من إجرام، كما استطاعوا التقاط السذج وتحويلهم لألغام متحركة شديدة الطاعة والولاء والرضى، كما استطاعوا الدفاع عن إجرامهم بتوجيه محاربين شرسين يدافعون عنهم بحساباتهم الإلكترونية ويقاومون الحجب والإغلاق ويتفرغون لبث الإشاعات!
التحول الثقافي حدث في وجهات السفر والسياحة فخسرت دول بعدها السياحي ودخلها المترتب عليه في مقابل تحول دول أخرى لوجهات سياحية، ولو تأملنا هذه الفكرة على صعيد محلي نجد أننا لم نصبح بعد وجهة سياحية حتى للمواطنين الذين لا يجدون في المصايف مثلا خيارات مريحة في السكن والترفيه، ولا حتى عروضا مغرية في السفر لها كثمن التذاكر.
التحول لم نستثمره بشكل جيد في مقاومة الحرب الشرسة التي تشن علينا من حسابات مغرضة، بل استمر انشغالنا بالصراعات المحلية فأصبحنا نجد تأثير فوز في تركيا أهم من الانتخابات البلدية، مع أن الأول لا يمسنا بتاتا عكس فكرة الانتخاب المحلي!
النماذج كثيرة في الفن والتعليم وبرامج اليوتيوب التي ما زالت جهودا فردية، والقائمة تطول وتحتاج إلى عمل جاد عليها.