من القواعد المتسالَم عليها عند عامّة الفقهاء أن الحدودَ تُدرَأ بالشبهات، أما الحدود فهي العقوبات المقدّرة المنصوص عليها في الشريعة لحق الله؛ فيخرج بهذا التعريف القصاص لأنه حق آدمي، ويخرج التعزير لأنه عقوبة غير مقدّرة.
وأما درء تلك الحدود بالشبهات فمعناه أن على السلطان أو القاضي أن يدفع الحدّ إذا عرضت له شبهة محتملة تفيد عدم ثبوت الحد أو تؤثر في حال من اتُّهم بارتكاب ما يوجب العقوبة؛ كالإكراه والجهل وغيرهما، فلا يجوز إنزال الحدّ على متهم إلا بيقين؛ ذاك أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن الدين مبني على السماحة والسير ورفع الحرج، وأن الأصل أنه لا ضرر ولا ضرار، وأن الشريعة تأمر بالستر وتحث عليه.
ولهذا؛ فإما البينة المتيقنة الرافعة للاشتباه وإما لا حدّ. قال الإمام الشوكاني يرحمه الله: "ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، وهو قبيح عقلاً وشرعًا، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين؛ لأن مجرد الحدس والتهمة والشك مظنّةٌ للخطأ والغلط، وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف". انتهى كلامه.
وإذن فلا بدّ من حصول اليقين الرافع لكل شك وشبهة؛ كي يستحق المتهم العقوبة، وإلا فإن الحدوس والشكوك والشبهات مظنّة الخطأ والغلط، فكيف يؤمن مع هذا إراقة دم بريء بغير حق؟ ثم تأمل قول الشوكاني رحمه الله: "فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف".
والشبهة قد تتطرق إلى جميع سبل الإثبات على المتّهم، في الإقرار، والشهادة، والقرائن، وتفصيل هذا في مظانّه من كتب أهل العلم.
وللفقهاء أمثلة يذكرونها في تطبيق هذه القاعدة الجليلة؛ فمن ذلك مثلاً: أنْ لو اتهمت امرأة غير ذات زوج بالزنى بسبب ظهور الحمل عليها؛ والحمل أمر ظاهر بيّن لا شكّ فيه، فهل الحمل بمجرّده سبب كاف لإيقاع الحدّ عليها؟
أما الجمهور –كما يقول الإمام الشوكاني– فلا يعدونه سببًا كافيًا، ما لم يكن معه بيّنة أو اعتراف، هذا والحمل من أظهر الأشياء وأبينها، فلو زعمت المتهمة أنها كانت نائمة، أو أنها كانت مكرَهة؛ أو غير ذلك من الشبهات أُخِذ بقولها وأسقط عنها هذا الحدّ.
هذا في مسألة كالحمل وهو ظاهر؛ فكيف لو كان الأمر متعلقًا بقصيدة أو رواية مما يغلب عليه استعمال المجاز ويقوم على الكناية والإغماض ويقبل التأويل وتعدد الأفهام؟ فالشكّ فيها والتأويل والاحتمال؛ لها مجال كبير للشبهة التي ترفع الحدّ.
بل حتى الإقرار حين لا يكون هناك دليل غيره –ومعلوم أن الإقرار سيد الأدلة-؛ يرى الفقهاء أن العدول عنه شبهة تسقط الحدّ. وعندما جاء ماعز إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ يلقّنه الشبهة، وعندما جاءته المرأة الغامديّة وصرفها؛ قالت له: "أتريد أن تردني كما رددت ماعزًا"؟
بل إن الشاطبيّ يرحمه الله ينص على أن الحدّ: "إذا عارضه شبهة وإن ضعفت؛ غلب حكمُها ودخل صاحبُها في حكم العفو".
وكذلك الخطأ في التأويل يعدّ شبهة ترفع الحدّ، كمن فعل أمرًا محرّمًا وهو متأول يظنه –بجهله- مباحًا لا حرمة فيه.
وللكمال بن الهمام رحمه الله كلام لافت بعد أن تناول أحاديث درء الحدود بالشبهات وردّ على من يضعّفها؛ ذاك أنها وإن ضعفت أسانيدها إلا أنها تقوي بعضها بعضًا وأن الأمة تلقتها بالقبول، وفي هذا كفاية، يقول الكمال بن الهمام بعد تقريراته تلك مستنتجًا: "فالحاصل من هذا كله كونُ الحد يحتال في درئه بلا شك، ومعلوم أن هذه الاستفسارات المفيدة لقصد الاحتيال للدرء كلها كانت بعد الثبوت؛ لأنه كان بعد صريح الإقرار وبه الثبوت، وهذا هو الحاصل من هذه الآثار ومن قوله «ادرؤوا الحدود بالشبهات» فكان هذا المعنى مقطوعا بثبوته من جهة الشرع فكان الشك فيه شكا في ضروري فلا يلتفت إلى قائله ولا يعول عليه، وإنما يقع الاختلاف أحيانا في بعض أهي شبهة صالحة للدرء أم لا بين الفقهاء". فتأمل أخي القارئ قول الشيخ ابن الهمام: "يحتال في درئه بلا شك". هذا، ولو شئنا أن نستحضر أقوال العلماء وتقريراتهم لطال بنا المقام.
والمقصود من كل ما سبق أن يقال: إن المقطوع به والذي لا يقبل الشك أن الحدود تدرأ بالشبهات وإن ضعفَت كما قال الشاطبي؛ ذاك أن الله تعالى خلق العباد لعبادته {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، فإذا أمكن يتركوا وحيواتهم –لا سيّما إذا كان الحد حد قتل وإزهاق روح- ليحققوا حكمة الله تعالى فهو القصد الأعظم من خلقهم، فإذا عرضت شبهة ترفع الحدّ عن المتهم؛ فالسعي في قبولها مشروع، بل الاحتيال لها كما قال ابن الهمام، وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ماعز حين لقنه الشبهة، ومع الغامدية حين أراد أن يردّها، وسألته: أتريد أن تردّني؟ فلم ينكر سؤالها.
وبعد، فإن ما يتعلق بالشعر والأدب والرواية مما فيه إغماض ومجاز وكنايات لا تصريح فيها؛ هو من أدخل الأمور بالشبهة وألصقها بها، إذ لا يمكن –والحالة هذه- القطع به على مراد صاحبه إلا أن يقر ويعترف بأن مراده كفر وردّة؛ مما كتبَه بشروط الإقرار المعروفة في مظانّها.