يعرف فقهاء الإسلام التعزير بأنه: "عقوبة غير مقدرة شرعا، تجب حقا لله أو لآدمي، وفي كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة غالبا"، وبناء على هذا التعريف تتعدد أنواع العقوبات التعزيرية. فمنها ما يتعلق بالأبدان كالجلد والإعدام، ومنها ما يتعلق بالأموال كالإتلاف والغرم والمصادرة، ومنها ما يتعلق بتقييد الحريات كالحبس والنفي.

والمتتبع اليوم لبعض الأحكام القضائية المتعلقة بالتعزير، قد يلاحظ التفاوت والاختلاف الكبير بين هذه الأحكام على القضايا المتشابهة، وربما كان التناقض على الحيثيات والوقائع والأسباب نفسها للقضية الواحدة، وهذا الاختلاف في العقوبات التعزيرية ليس بجديد، فكتب التاريخ تذكر لنا أن عبدالله بن المقفع لاحظ أن الأحكام أصبحت متناقضة في الدماء والأموال، فوجه رسالته المشهورة "رسالة ابن المقفع في الصحابة إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور" مطالبا بتقنين العقوبات التعزيرية، حيث قال ما نصه:

"فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة، فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا".

واليوم يعيد التاريخ نفسه، فما زال بعض الفقهاء والمختصين في القضاء يطالبون بتقنين شرعي للعقوبات التعزيرية، بحيث يضمن ويكفل حقوق المتهمين والمساواة بينهم في القضايا التي تتشابه في صورتها وملابساتها، إضافة إلى ضعف الاجتهاد وكثرة التقليد في وقتنا الحاضر في ظل مخاطر تلك العقوبات، خاصة التي تتعلق بالقتل والجلد والحبس.

وعلى الرغم من المطالبات التي تنادي بضرورة تقنين العقوبات التعزيرية، إلا أن بعض الفقهاء ورجال الدين يرون أن عقوبة التعزير سلطة تقديرية بيد القاضي وحده، يستعملها كيفما يراه هو شخصيا وفق مصالح المسلمين، والقاضي مأمور بأن يحكم بما يرى أنه هو الحق والعدل، إضافة إلى أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، كما أن الأمر إذا جاء فيه حكم من الله أو من رسوله فليس لأحد مخالفته، والتقنين يخالف ذلك كله فوجب رده ورفضه، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: "إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما" النساء الآية 105، وقوله تعال: "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" الشورى الآية 10.

ويمكن الرد على الرأي السابق الرافض للتقنين بالقول: إن التعزير كلمة مطاطة لا حدود لها، ولا يوجد لها تعريف جامع مانع وثابت، إضافة إلى أن الفقهاء ليسوا أنبياء معصومين ولا يأتيهم الوحي، كما أن الله عزّ وجل قد نهى عن اتباع غير كلام الله، كما جاء في قوله تعالى: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون"، وعليه كيف أجاز الفقهاء تشريع عقوبات باسم دين الله دون أن يأمرهم الله بذلك؟

فإذا كانت العقوبات التعزيرية غير مقدرة شرعا في معصية لم ينزل الله عزّ وجل فيها حدا ولا كفارة، بمعنى أن الله لم يقرر لها عقوبة، وهو الذي يعلم السر وما يخفى، والذي خلق الإنسان واختار له من الدين والتشريع ما يقوم حياته في الدنيا والآخرة، فكيف أجاز الفقهاء من عند أنفسهم أن يقرروا عقوبات لمعاصي أو مخالفات لم يقرر الله لها عقوبات؟

من المعلوم أن الشريعة الإسلامية جاءت لترتيب أمور الناس من الجهة القانونية والعدالة الاجتماعية، حسب ظروف المجتمع والبيئة المحيطة به، والعدالة هي المطلب الأساسي والهدف الرئيسي للشريعة، وقد ترك الله عزّ وجل للناس تحقيق هذا الهدف، من خلال إصدار الأنظمة والقوانين والعقوبات.

فالقانون يمثل آلية وأسلوبا لإحقاق الحق وإقامة القسط بين الناس، وكلما كان القانون أقرب إلى مقتضيات العدالة كان أقرب إلى تحقيق أهداف الشريعة الإسلامية، وينبغي العمل به وتجسيده واقعا اجتماعيا، وأحكام الشريعة متغيرة ومتأثرة بظروف الزمان والمكان، وكانت الأحكام الفقهية في الماضي عبارة عن اجتهادات بشرية تمثل القوانين التي يسير عليها المجتمع آنذاك، وهي قد تكون أقرب للعدالة في ذلك الوقت، لذا كانت من صميم الشريعة نفسها ولا تتقاطع معها.

وإذا كانت تلك الأحكام الفقهية تتناسب مع معايير العدالة في ذلك الوقت، فإنها لا تتناسب بالضرورة مع مقتضيات العصر الحديث، وباعتراف الفقهاء اليوم بأننا في زمن كثر فيه المقلدون وقل فيه المجتهدون، فهل يعقل تطبيق أحكام فقهية وعقوبات باجتهادات بشرية مرّ عليها قرون طويلة على كل ما نشاهده من متغيرات كبيرة على مستوى الثقافة والعلاقات الاجتماعية والسياسية والتطور الحضاري والعلمي للإنسان المعاصر؟!

المجتمع اليوم بحاجة إلى تنظيم وتقنين العقوبات التعزيرية على شكل قواعد وأنظمة مكتوبة، تتلاءم مع التغيرات الاجتماعية والحاجات البشرية الحديثة، وللمملكة العربية السعودية تجربة جديرة بالاهتمام في المجال القضائي وتقنين العقوبات التعزيرية، إذ صدرت أنظمة منها على سبيل المثال نظام مكافحة الرشوة والتزوير، ونظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، ونظام مكافحة المخدرات، إضافة إلى إعداد مشروع "مدونة الأحكام القضائية"، والتي نأمل أن تتحول بعد اعتمادها إلى قوانين تتضمن تقنين العقوبات التعزيرية للقضايا المعاصرة، وتكون ملزمة للقضاة في المحاكم الشرعية.