بالتأكيد أن الطبيب البولندي "لودفيك زامنهوف" لم يكن يتصور يوما ما أن مشروعه الطموح بلغة عالمية مشتركة يفهمها كل البشر سيتحول في النهاية إلى لغة أقرب ما يكون إلى أصل الكتابة، حينما كانت مجرد رسوم ورموز!
هذا ما يحدث اليوم مع رموز "الإيموجي" التي ابتكرها الياباني "شيجيتاكا كوريتا" عام 1998 ليتجاوز صعوبة إيصال مشاعره إلى زملائه عبر رسائل الهاتف والبريد الإلكتروني، والتي سرعان ما تلقفتها شركات مشغلي الهواتف الجوالة في اليابان، وكانت مجرد وجوه ضاحكة ورموز بدائية، اطلق عليها مسمى "إيموجي Emoji"، وهي كلمة نحتت من كلمتي "e" وهي اختصار كلمة الصورة, و"moji" التي تعني الحرف أو الرمز، والتي بعد انتشارها خارج اليابان عام 2010 وحّدت أكوادها، لتظهر بشكل متماثل في جميع الهواتف النقالة ومشغلي الشبكات، كما لو كانت لغة مستقلة في حدِ ذاتها.
والعجيب أن هذه الرموز توسّعت وانتشرت في العالم خلال سنوات قليلة، بل أضحت أكثر انتشارا من لغة "الإسبرانتو" العالمية التي كانت وما تزال المحاولة الوحيد المعتبرة لجمع بني البشر على لغة واحدة مشتركة، غير أنها ومنذ أن ابتكرها "زامنهوف" عام 1887 لم تحقق النجاح المأمول، فهي ما تزال تستخدم على نطاق ضيق ضمن دوائر المثقفين والمهتمين باللغات واللسانيات، ولم تستطع تحقق هدفها أن تكون وسيلة الاتصال المحايدة والعادلة بين البشر، بحيث لا تنتمي إلى عرق واحد أو دولة واحدة، فضلا عن أنها تشعر المتحدث بالتساوي مقارنة بالتحدث بأحد اللغات الأخرى الشهيرة مع شخص يتكلمها كلغة أصلية.
ولعل أكثر الإحصاءات المتفائلة تقدر عدد متحدثي هذه اللغة بحوالى ثلاثمئة ألف متحدث حول العالم. منهم ثلاثمئة عربي فقط، رغم جهود اللجنة العربية التابعة لجمعية الإسبرانتو العالمية، بتوفير الكتب ومصادر التعلم، لكنها تبقى أقل من مستوى التوقعات وفي تراجع مستمر.
لكن يبدو أن لغة الرموز السهلة والملوّنة –الإيموجي- حققت خلال خمس سنوات ما لم تستطع "الإسبرانتو" تحقيقه خلال أكثر من مئة عام! وأضحت أسهل وسيلة اتصال تجمع بني البشر، لأنها تمكّن الجميع من اختصار الوقت والجهد خلال الكتابة.
ليس هذا وحسب؛ بل وحتى اختصار المشاعر والمعاني، وتحقيق عنصري الحيادة والمساواة بين طرفي الاتصال، الأمر الذي ساعد على تطور وتشعب استخدامها بشكل مذهل، بحيث أضحى كل مجتمع يتوافق على معاني أخرى مختلفة لبعض الرموز، كما هو استخدام رمز "الباذنجان" في الولايات المتحدة، أو الاستخدام التجاري للرموز كما يحدث حينما تطلب بيتزا من أشهر سلاسل البيتزا في أميركا، أو حتى حجز غرفة فندق بالطريقة نفسها، بل وصل الأمر إلى استخدامها ككلمة مرور، نظرا لأنها تعطي خيارات أوسع، إذ إن لغة "الإيموجي" توسع دائرة الاحتمالات الموجودة في 4 خانات إلى أكثر من ثلاثة ملايين خيار، بدلا من 7289 التي يمكن الحصول عليها مقابل رقم واحد صحيح.
أما على المستوى الثقافي، فلقد تجاوزنا مرحلة استغلال تلك الرموز في الرسائل والمقالات؛ حتى حدى الأمر بصحيفة "اليوم السابع" المصرية استخدام رمز وجه "الإيموجي" الحزين، وذلك في صدر "مانشيت" الصفحة الأولى؛ حين تغطيتها لغرق شوارع مدينة الإسكندرية شهر نوفمبر الماضي، فضلا عن النسخة الإنجليزية من موسوعة "ويكيبيديا" المفتوحة، والتي غالبا ما تربط جزءا من عناوين صفحاتها برمز "الإيموجي" المناسب، مثل ربط موضوع عن البرتقال برمز برتقال الإيموجي.
بالطبع، يتزايد استخدام هذه الرموز كل يوم دون أن نشعر، ويتجاوز أثرها المستوى الاجتماعي والاتصال الجمعي، فهي اليوم أضحت جزءا أصيلا من اللغة الأكثر انتشارا في العالم، فها هي هيئة تحرير قاموس أكسفورد العريق لمفردات اللغة الإنجليزية تختار أحد رموز الإيموجي كلمة هذا العام 2015! وهو الوجه بدموع الفرح! نظرا لأنه كان الأكثر انتشارا هذا العام، وهذا ما يؤكد أننا أمام طوفان متعاظم لهذه الرموز، وأنها قد تصبح يوما أداة التواصل البسيط بين عموم البشر، خصوصا ممن لا يتحدثون إلا بلغتهم الأم، أو ممن لا يجيدون استخدام تقنيات الترجمة.
حتما أن "الإيموجي" ستزداد انتشارا وتأثيرا، خصوصا مع التحديث الجديد الذي ظهر بألوان أعراق البشر! كما أنها ستزداد تعقيدا وتشعبا، وستتداخل بشكل أوسع في التعاملات الشخصية وحتى التجارية. السؤال الأهم: إلى أي حد أقصى ستأخذنا هذه الرموز؟ وإلى أي مدى سنتقبل تكاثرها حولنا؟ لننتظر ونرى.