يثار في العالم اليوم سؤال حول جذور العنف في المجتمعات الإسلامية، لا سيما العربية منها، والسؤال لم يعد مرتبطا بإجراء بحث سيسيولوجي أو كتابة مقال صحفي، بل صار مرتبطا بحياة البشر، وباستمرار الأمان في مجتمعات كانت تعتبر نفسها آمنة ومستقرة.
ومهما تعقدت الإجابات وتشعبت، فلها في النهاية مراجع بسيطة وواضحة، وكل من عاش في مجتمعاتنا أو عرفها عن قرب، يستطيع أن يرصد من مشاهداته اليومية عشرات الأسباب ومئات التعبيرات التي تفسر ظاهرة العنف، وغالبا ما سيصل إلى نتيجة ملخصها استغراب أن البعض ما زال غير عنيف، وربما سيطلب من مختصين نفسيين واجتماعيين أن يدرسوا ظاهرة غير مفهومة، وهي بقاء بعضنا نحن أبناء الشرق الأوسط بعيدين عن دائرة العنف ودواماته.
فالعنف يحيط بنا من كل جانب، بدءا من البيت، إذ ربما لا يخلو بيت في هذه البقعة من العالم من ظاهرة العنف الأسري، والأزواج الذين يضربون زوجاتهم لتأديبهن "وأحيانا توددا لهن" ويعتبرون ضرب الأبناء ذكورا وإناثا على السواء أنجع وسيلة تربوية، ويمتلئ الموروث الشعبي بأمثال تثني على فضائل الضرب، حتى إنها تعتبر العصا من الجنة.
وينتقل معنا إلى المدرسة، بل يسبقنا إليها، حيث يسلمنا أهلنا لمعلمينا لحما على أمل استلامنا عظما، وهو المصطلح الذي يستخدمه الأهل حرفيا في العلاقة مع المدرسة، وفيها لا يقصر المعلمون بتطبيق بنودها حرفا حرفا، فيترافق تعليمنا مع تأديبنا، والتأديب بالطبع لا يتم إلا باستخدام أقسى أنوع العنف الجسدي واللفظي والنفسي.
وفي المناهج التي نتلقاها -ونتلقى الضرب كي نحفظها- تتوزع المفاهيم والمعاني التي تحرض على العنف على السنين والمواد والفصول، فالتاريخ الذي ندرسه هو تاريخ فصل الرؤوس عن الأجساد، والأبطال الذين نتغنى بهم هم أولئك الذين قتلوا أكبر من عدد من الآخرين، وحتى حين نتعلم الشعر فمن المعيب أن ندرس أو نحفظ قصيدة حب، فالشعر الذي نتعلمه في المدارس ونتغنى به ونحفظه سيكون ربعه سيوفا تقطر دما، ورماحاً تنهش قلوب الأعداء، ونصفه الباقي تفاخر بتفوق تميم على نمير، وبكر على تغلب، وعبس على ذبيان. ثغر الحبيبة يلمع كما السيوف في الحرب، والطيور تحضر في القصائد فقط لتحوم فوق جثث الأعداء، والأولاد يكبرون ليبقروا بطونهم!
فيما بعد، يواصل الإعلام مسيرة البيت والمدرسة، وتمتلئ الشاشات بمشاهد الموت والدمار، والبرامج الحوارية هي حفلات شتم وشتم مضاد، والأبطال الشعبيون الذين ننقلهم إلى الإعلام ونصنع عنهم الأفلام والمسلسلات، هم الأكثر بأسا في الحروب، فيتنافس المنتجون وقنوات التلفزيون على شخصيات مثل الزير سالم وعنترة بن شداد، بينما يمنع عرض فيلم سينمائي عن شخصية ابن رشد، ولا أحد من الجيل العربي الجديد يعرف كلمة واحدة عن ابن الهيثم أو ابن سينا أو الرازي أو الفارابي.
أنصاف الجهلة الذين يخطبون في الشباب، ويهذرون بكلام يعتقدون أنه شرح لقيم الإسلام، يحملون لقب شيخ، ويطلقون لحاهم، ويرتدون لباسا مضللا يعطيهم قيمة لا يستحقونها، ويتركون أثرهم في الشباب موسعين دائرة العنف والحقد والنزوع للانتقام من الآخر، لمجرد أنه آخر.
وهكذا اكتملت العدة، وخرجنا إلى الدنيا مزودين بكل أدوات العنف، لتأتي المحرضات المباشرة والأسباب الكافية لإشعال كومة البارود التي تربت داخلنا، فالشاب الذي يحمل إحساس الظلم والعجز، وهو بلا عمل وبلا أفق، في بلدان يعاني معظمها من معدلات بطالة مرتفعة، وانعدام تكافؤ الفرص، والتباين الفاضح بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وحيازة البعض على كل شيء، وافتقاد البعض أي شيء، يصبح برميل البارود لا يبقى أمامه سوى الانفجار.
الشباب الذي لا يمتلك أملا سيتعامل مع العالم كله عدوّا له، وسينتهز أول فرصة تتاح له لينتقم من كل ما تلقاه في حياته، سينتقم من أبيه ومن معلمه ومن أسياد مجتمعه، سينتقم لفقره وبطالته وظلمه، وسيكون لقمة سائغة لأصحاب مشاريع العنف الذين يبحثون بين هؤلاء عمن يغرروا بهم ليكونوا وقودا لمشاريعهم الظلامية.
هناك جملة لبرنارد شو قادرة على تلخيص كل هذه الأفكار المتداخلة: "حين ألقى أول رجل في التاريخ كلمة حيث كان عليه أن يلقي حجرا؛ بدأت الحضارة" هكذا ببساطة إذًا: في هذه البقعة من العالم، الحضارة لم تبدأ بعد.