الجهل عكس العلم، وجهل الأمر يعني خفي عنه، والفاعل منه جاهل والمفعول مجهول. وينقسم إلى أنواع ثلاثة، بسيط وكامل ومركب. لكن نوعاً جديداً من الجهل قد ظهر في ثوب الثقافة العربية الإسلامية، قد ندفع ثمنه باهظاً إذا لم ننتبه إلى مأزقه؛ فإننا على مشارف سقوط إلى أماكن مظلمة سحيقة في المستقبل.

فالجهل يأخذ أشكالا متعددة في تكوينه وتركيبه أصلاً، لأنه ضارب بجذوره في المجتمعات التي تجتر عادتها وتقاليدها وتراثها جامدا على هيئته التي وجد عليها، ولا تضع في حسبانها تغير الأشياء من حولها حتى الكونية منها، وهي هنا إنما تراوح في مكانها كطواحين الهواء العتيقة، تلك التي ظل يحاربها "دون كيشوت" زمناً طويلاً بحمق، ذلك أن المجتمعات المجترة فاقدة للسيطرة على وعيها، وفاقدة للثقة في أجيالها المتعاقبة وقدرتهم على صنع الفارق الإيجابي.

لذا فإنه من غير المرجح أن تتقدم أو تقدم ما يشفع لها بالبقاء، كأمم تحظى باحترام مثيلاتها المجايلة لها زمنياً، ولن تستطيع مجاراة أبسط متغيرات عجلة الثقافة والوعي الإنساني، فهي عاجزة عن الابتكار، كنتيجة لعجزها عن القدرة على التغيير، ولن يكون في مقدورها بالتالي خوض أية تجربة وعي محتملة، ويوماً ما ستدرك هذه الأمة أنها قد وضعت نفسها في المكان الخطأ، وحكمت على نفسها بالموت الأممي على كل المستويات وفي كل المجالات.

وإن أمة تفضل الحصول على الذرائع وليس الأخلاقيات والاحتياجات لشرعنة حركتها، هي أمة مختطفة العقل وفاقدة لعظمة التفكير، ولن تنتج سوى مجموعة من الأتباع غير الناضجين، وغير المحتمل نضوجهم في مستقبلها. وفي هذا يقول المفكر الإسلامي "رضا خالد" في كتابه (نحو فقه إسلامي جديد. الرسالة –الشريعة- المجتمع) في محور حديثه عن القراءات الجامدة المتعثرة للتشريع الإسلامي إنها: "غلّبت الوفاء للموروث والإخلاص للسلف الصالح والتسليم للفقهاء، وهذا الوضع البائس هو محصّلة قرون من الترويض هيمن فيها الفقهاء على العلوم الدّينية فهيمنوا على الحياة" وقد ساعدتهم في ذلك "حالة من البلاهة العامة".

وأظنه قصد فترات الحروب المغولية الطاحنة، ووضع الدولة الإسلامية الضعيف، والانقسامات السلالية الحاكمة.

إنني كمسلم أستغرب أن تعجز أمة كبيرة كالأمة العربية والإسلامية، في القدرة على إنتاج مخارج فقهية لأزمة خطابنا الديني ومتطلبات العصر، فالفقه الموجود بين أيدينا اليوم، يعجز -في رأيي- وبنسبة كبيرة عن التماهي مع سرعة قطار التقدم الحضاري المنطلق بسرعة الفكرة وتغيرها النوعي الخاطف.!

إلا أن ما أشاهده على أرض الواقع هو أننا ضحية ترتيب فقهي عتيق يجتر بعضه بعضاً، وكأننا نرسم حالة جهل جديدة رابعة على وشك تعريفها وإضافتها كمصطلح إلى قاموس اللغة والفكر.

غير قادرين على التسليم بأن الفقه ما هو إلا حاجة اجتماعية مرتبطة بالزمن والحراك الاجتماعي، وينبغي أن يكون مرناً متغيراً وليس ثابتاً جامداً مقولباً كما يعتقد ويؤمن به بعض الحاملين للوائه اليوم، وأن بقاءه في إطار النقل خارج الاجتهاد هو وبال على الأمة بأكملها.

واحتمال أن تختنق هذه الأمة نتيجة اختناق الفقه وارد وبنسبة كبيرة، تتصاعد في حدتها يوماً بعد آخر. وحين يضيق الناس ذرعاً بهذا الحصار الفقهي المتعنت، ستكون ردة العفل مساوية لمقدار ذلك الكبت –حتى حسب النظرية الفيزيائية- وستكون النتائج كارثية على امتداد الأمة، وستفشل وقتذاك كل العمليات الجراحية لاستعادة ولو جزءا صغيرا من كرامة الفقه الإسلامي الممتد عبر تاريخه.

فهو منظومة فكرية تقبل التحديث وترتكز على معطياته، بل لا تعيش هذه المنظومة الفكرية إلا بالتحديث المستمر، ليستمر الفقه في عمله التنويري الذي نشأ من أجله في الأصل، وخارج هذا السياق لن يكون مستقبله مزدهراً في ظني.

يتحدث كثير من المشايخ وعلماء الدين عن ضرورة التجديد، لكننا في الواقع لا نرى العجلة تدور في هذا الاتجاه، بقدر ما نراها تعاكسه، لدرجة فقدنا معها الثقة في حدوث التحول الفكري الفقهي كحقيقة واقعة.