جاء في كتاب (الفاشوش في حكم قراقوش) "أن جندياً نزل في مركب وكان به فلاح وزوجته وهي حاملٌ في سبعة أشهر، فصدمها الجندي فأسقط حملها، فأخذ زوجها بتلابيبه وقاده إلى قراقوش، فقضى على الجندي أن يأخذ الزوجة ويطعمها ويكسوها ولا يعيدها إلى زوجها إلا وهي حامل في سبعة أشهر"!

هي قصة كاريكاتورية بلا شك، تصوّر غباء قراقوش الجائر أو جوره الغبي، ولكن ما هو وجه الجور والغباء في حكمه هذا؟ ماذا لو كان ما صدمه الجنديّ وأسقط حمله هو شاة أو بقرة تعود ملكيتها للفلاح، وليس زوجته الّتي تشترك معه في الآدمية؟ هل من الممكن أن ننظر إلى حكم قراقوش على نفس النحو؟

بالتأكيد لن يكون الأمر كذلك بل ربّما رأينا حكمه على درجة عالية من العدل أو من المعقولية على الأقل. إذن لعل ذلك الذي استهجنّاه بشكل ساخر هو أن يتعاطى القانون مع الإنسان وغيره من الأشياء بالمنظور نفسه، وهو ما ينبغي أن تتسامى عنه فلسفة كل قانون يزعم أن مشروعيّة وجوده قائمة على مصالح البشر. لكننا عند النظر إلى تاريخ المحاكم في الحضارة البشرية نجد أن كثيراً من الأحكام والتشريعات القضائية غير بريئة من تلبّسها بنظرة متجاهلة لتميّز الإنسان عن غيره من الكائنات، فكيف يحدث هذا؟ يبدو لي أن هذا لا ينعكس على القضاء أو يتسلّل إليه إلا عبر خلل ثقافيّ في تعريف الإنسان والعصمة المترتّبة على ذلك التعريف. ومن المؤسف أن هذا خلل لا تكاد تخلو منه حضارة على هذه الأرض، ولم تبرأ منه حتى تلك الثقافات التي تزعم انبثاقها من ديانات سماويّة قد ترتكز عليها في تشريعاتها.

تتعاطى جميع الثقافات (عملياً على الأقل) وفق تصور لوجود إنسان مركزي مكتمل الشروط الآدمية، محاطٌ بحلقات هامشية متتالية تتناقص فيها الشروط الآدمية مع كل مسافة تبتعد بها الحلقة عن البؤرة التي يقف فيها الإنسان المركزيّ.

وقد تجسد ذلك تشريعياً بشكل نظري سافر في أثينا القديمة حيث نظر إلى المرأة والعبد ككائنات ناقصة الآدمية وعوملا وفق تلك النظرة بطبيعة الحال.

أمّا الثقافات التي يتجلّى فيها تشييء الآدميّين عملياً دون التصريح النظريّ فغالبا ما يحدث فيها ذلك بسبب محمولات تراثية تجسّر لظهورها اللغة، ومن أمثلة ذلك أن تنتقل الاستعارات المجازية من أنساقها الشعرية الجماليّة إلى أنساق جدليّة حجاجية، فتصاغ الحجّة بشكل يتجاهل الفارق الحقيقي بين الإنسان وبين الصورة المجازيّة التي تشير إليه، فإذا طال الأمد بهذا الاستعمال واستساغه الناس عومل كمرجع تشريعي بحد ذاته.

لذلك من المهمّ التنبّه لخطورة كل تعبير لغوي يشير إلى الإنسان بصورة مجازيّة مستعارة من عالم الأشياء عند نقله إلى دائرة الحجاج، فطول العهد بالاستعمال كفيل بأن يلقي بظلاله على تصوّرنا الحقيقي للوجود، فلا يمثّل الرجل عندئذٍ أكثر من حائط ولا تمثّل المرأة أكثر من جوهرة على سبيل حقيقة الممارسة العمليّة، وما يترتب على ذلك من نظر قانوني، فتظهر حينها الأحكام القراقوشية المشابهة لما ورد في رأس المقال، وإن كان بشكل أكثر خفاء وأقل فجاجة، وربّما حال حجاب الألفة دون إدراك فجاجتها والوعي بها.

تحتّم الأمانة أن نشير إلى براءة بهاء الدين قراقوش وزير الناصر صلاح الدين الأيوبي وباني قلعة القاهرة العظيمة، ممّا شنّع عليه في كتاب (الفاشوش) الذي وضعه منافسه الساخط عليه (أسعد بن مماتي) فكان له ما أراده من تشفّي العامّة بقراقوش في حياته وبعد مماته، ويبدو أن حقيقة قراقوش بعيدة عن كتاب ابن مماتي كلّ البعد ومما يدل على ذلك ثناء ابن خلّكان عليه في (وفيّات الأعيان) وقوله فيه: "كان حسن المقاصد جميل النيّة، وكانت له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين".

ولكنّ براءة قراقوش على كل حال لا تنفي وجود (القراقوشية) وتسلطها على العباد خصوصاً في تلك اللحظات المتخلفة من التاريخ.