على وتر العواطف العربية المشبوبة ترنحت آمال عريضة، لم يبق منها غير رجع صدى، يُذكَّر بخيبات الشعار البراق وانكسار اللاءات الحماسية المحمولة على أكتاف الغيورين والبسطاء الذين أُجلت معظم حاجاتهم التنموية على ذمة وهم التوحد حيناً، وخدع الانتصار في حين آخر.
تعاقبت دورات الزمن، وتبدلت أحوال وتحديات العالم، فيما ركنت أمتنا العربية للدعة، وتفرغ كثير من نظمها السياسية لإدارة وتمويل صراعاتها البينية. لم ينته الأمر عند محطة فاصلة، ولا طبائع الأمة ورهاناتها أعادت تموضعها ضمن مسار التطور التاريخي للأشياء.
ثمة جفاف قارس أحال المتخيل من الخيارات المستعصية إلى ثوابت متحجرة تعيق حركة الزمن، وتحجب حق الأمة في التغيير، وفقاً للفطرة، وتبعاً للنواميس الكونية.
تبدو حالة الجفاف هذه ـ مثل جلمود صخر ـ إن لم تكن أشد تحجراً، إذ كلما دعت حاجات الأمة لمراجعات واعية، وإعادة نظر في مسلماتها "الكلاسيكية"؛ كلما تدافعت قوى الإعاقة باتجاه الندب، واجترار ذات الخيارات التي تعيد إنتاج شعاراتها القديمة، ومشروعياتها المتآكلة.
مما لا ريب فيه أن الحكومات العربية إذَ تنشغل بالتفاصيل الصغيرة، والأحداث العابرة، فإنها تفعل ذلك على حساب التحولات التاريخية التي نادراً ما تتيحها أقدار أو تجود بها متغيرات.
بيد أن التعميم يؤدي إلى اليأس، إذ كلما كانت الصورة مشوشة، كلما استدعت الحاجة ثقباً للضوء، وبحثاً عن أمثلة تشجع على التفاؤل، ولهذا أجد في العلاقات اليمنية السعودية المتنامية حالة استثنائية جديرة بالدراسة والاستخلاص.
فعلى مدى خمس سنوات غزلت الأماني المؤجلة وعودها مع حقبة جديدة انفرجت معها عقد الأيديولوجيا وألغاز الجغرافيا وارتسمت على ملامح هذه الحقبة بدايات تدعو للأمل.
إن للتاريخ سياقات ملتبسة، يمضيها البشر دولاً وشعوباً، تحت تأثير خيارات جدلية من تناقض مصالح وتقاطع مفاهيم واشتباك ثقافات، لكن التاريخ، يتخفف من أحماله على حين غرة، متى وضع الجدل استخلاصاته في صورة معادلات تفرض نفسها على الواقع، بصرف النظر عن عدالتها أو منطقية منطلقاتها.
وفي هذا السياق لاحت حقبة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالتزامن مع بروز واستقرار عدد من المعادلات ذات الارتباط العضوي بمسار العلاقات اليمنية السعودية.
تحققت الوحدة اليمنية بقرار وطني محض وأزالت حرب 94 هواجس الاحتراس الخليجي الذي صاحب مرحلة قيامها، ووضعت قيادتا البلدين يديهما على مشكلة الحدود بين البلدين، وجرت التسوية بالطريقة المرضية لكليهما.
وعلى نطاق الأيديولوجيا فإن انحسار المد اليساري القادم من اليمن، وزوال مخاطر التوجه القومي "الأيديولوجي" اقترنا مع أحداث سبتمبر التي ألقت ظلالها على فاعلية التطرف في المنطقة.
إن التعبير عن أشراط تحول تاريخي يقتضي البحث في متاحات لا نرتهنها لمقررات الماضي، قدر ما نستثمر من خلالها هدايا الأقدار عندما تلوح بوادرها في الأفق.
وليس من قبيل العزف على وتر العواطف، أن استشف في الحقبة التاريخية التي يشهد الشعب السعودي مخاضاتها في ظل حكم خادم الحرمين واحدة من الفرص الثمينة التي تحتشد معها ممكنات النهوض ـ السعودي ـ اليمني ـ المشترك لبناء نموذج مختلف، يمكن احتذاؤه مستقبلا على صعيد تطوير العلاقات العربية العربية.
ولئن كنت أشرت ـ في مناسبات ووسائل اتصال أخرى ـ إلى عدد من المظاهر السلبية التي لا تتناغم مع حقبة حملنا مثل كل أبناء الجزيرة العربية بشرياتها؛ فإن ذلك لا يقلل من أهمية البشرى، ولا يلغيها، ولكنه يجعل احتفاءنا بها مشفوعاً بشيء من "إنّ" التي انفطر على ذمتها قلب سيبويه.
وإذا جاز لي استخدام مفردة "الجزم" فإن ذلك سيحدث للتأكيد على أن معظم القيادات المتنورة في المملكة يشاطروننا ذات الانطباع حول سلبيات نظام الكفيل وما تشوبه من تطبيقات.
إن حديثنا عن هذا الأمر يصب في مجرى الاحترام الذي نضمره للمملكة كدولة ـ ومؤسسات حكم ـ تتحمل مسؤولية إدارة وحماية مصالح المجتمع، وهي قادرة حتماً على تطبيق تشريعاتها، لكنها حين تلقي مثل هذه المسؤولية على عاتق الأفراد، فإن ذلك يجعل المستهدفين بتطبيقات نظام الاستقدام والإقامة عرضة للأهواء الشخصية، على حساب الغايات التي يراد تحقيقها.
إننا لا نسعى لتحميل العلاقات الثنائية بين أي شعبين عربيين فوق طاقتها، ولا نستطيع تحويل وشائج الأخوة والجوار إلى شماعة تعفي الحكومة اليمنية من مسؤولياتها في خلق فرص استثمارية جديدة، تستوعب الفائض عن الطلب الداخلي للعمالة المحلية، والذي تحدده مؤشرات النمو الاقتصادي متعددة الأوجه، ومن واجبنا أن لا نتردد عن ممارسة أقصى درجات النقد الذاتي لجوانب القصور المتعلقة ببرامج تأهيل القوى العاملة اليمنية بما يتناسب واحتياجات سوق العمل الخليجية.
إنها مسؤولية اليمن بدرجة رئيسة، وليس يخص الأشقاء منها غير تصويب الإجراءات الخاصة، بطرق التعاطي مع العمالة اليمنية المأذون باستقدامها، أو تلك التي تقيم داخل المملكة، وتلتزم لقوانينها النافذة، وتعليمات أجهزتها الحكومية الرسمية.
وفي حدود علمنا، فقد عدلت بعض الحكومات الخليجية عن إجراءات شبيهة، وأحسب أن الجهات السعودية ذات العلاقة لن تتردد في بحث الموضوع.
هي دعوة لإعادة النظر.. ومحاولة لِلفت الانتباه، كما هي ابتهالات تستمطر حقبة الملك عبدالله التي تبدو مردوداتها على صعيد الرأي، والانفتاح على شرائح المجتمع، والتعاطي الموضوعي مع قيم الحوار البناء، أولى بالاسترسال، وذلك موضوع نتناوله في مقالة قادمة.