من الظواهر اللافتة في ا من الصعب – عادة – أن تقنع المُخيّلة الشعبية في السعودية بخطورة لجوئها الدائم إلى عالم الخيال لتفسير الحياة الواقعية. ستردّ عليك هذه المخيّلة بعنف، مُستدلة ضدّك بأن الجنّ مذكورون في القرآن و"الرسول قد سُحِر" و"العين حق"، داعمين مرافعتهم بقصص عجائبية أبطالها الخادمات وأدلتها المادّية أوراق مهترئة تحمل خربشاتٍ لا تُقرأ. لكن هذه المخيلة ستعجز عن إجابتكَ إذا ساءلتها: كيف عرفت أن هذه الخربشات هي ذاتها السحر المذكور في القرآن؟ أؤمن بالقرآن و بكل ما جاء فيه، لكنني لا أستطيع أن أستسلم للمماهاة بين إيماني – بالجن، بالسحر، إلخ... – و بعض المفرزات الغرائبية المادّية لحياتنا الاجتماعية. ولا أعرف بأيّة آلية معرفية تمكّن إنسان هذه الأرض من الربط المباشر واليقيني بين إيمانه بالسحر، وممارسات خادمتهِ الآسيوية، مثلاً.

سهلة هي الكتابة حول خطورة انتشار هذا الشكل من التفسيرات السحرية للحياة، لكن من الصعب جداً أن تبدو هذه الخطورة مفهومة بوضوح للجميع.

وما هوَ فريد في الحالة – الافتراضية – التي يدّعي فيها موظف رسميّ أنه (مسحور) وبسبب السحر لا يؤدّي واجبات وظيفته؛ أن المخيّلة الشعبية ذاتها تكون أوّل وأشدّ من يرفض هذه التفسيرات السحرية للواقع. ويكون رفضاً عاماً وساخراً بل وقادراً بطريقة مدهشة على تفكيك وقائع القضية بعقلانية. ما يعنيني في هذا الموقف، هو أن هذه الحالة – الافتراضية – لا تختلف بمجملها عن أي واقعة سحر أخرى، ووفقاً لمنطق السحر في المخيلة الشعبية، فلا شيء يمنع أن يكون الموظف مسحوراً فعلاً، فإذا افترضنا أن الموقف سيستكمل عناصره التقليدية بحضور راقٍ شرعي في المشهد مثلاً، بالإضافة (جنّي) يتكلم، ثم شهود معتبرين. المشهد لا يختلف عن أي (قصة سحر) أخرى بطلتها امرأة سعودية وخادمتها، مثلاً. وبينما لا تزال هذه القصة الأخيرة مقبولة عموماً فإن الحالة – الافتراضية – لهذا (الموظف المسحور) مرفوضة بشدّة، ما يصنع الفرق هنا هو دخول منطق السحر إلى حيّز جديد، حيّز وظيفي أخلاقيّ عقلاني قد يؤدّي قبول منطق السحر ضمنه إلى تفجيره بالكامل، لهذا تبدو هذه اللحظة مناسبة تماماً لإعادة لفت النظر إلى خطورة سيطرة التفسيرات السحرية على واقعنا الاجتماعي.

عندما تصل خطوط الثقافة الاجتماعية إلى نقطة تقاطع دراماتيكية مذهلة، تقاطع فيها ما لا يتقاطع، تقاطع فيها السحر بالمنظومة الوظيفية، والجِنّ بالموظفين، وذروة اللاعقلانية بما يفترض أنه ذروة العقلانية الاجتماعية؛ فإن هذا التقاطع لا يكون إلا نتاج استمرارية هذه الخطوط وتوغلها في المجتمع بحيث يكون هذا التقاطع حتمياً. فيكون من المحتّم وفقاً لهذا السياق الاجتماعي الذي احتوى النقائض أن يلتقي السحر بالأنظمة وبالفساد. وأن تستولد لغتنا المتداولة تعبير (الموظف المسحور)، ليباشر لعب دوره الغرائبي، إلى جوار "القصر المسحور"، و"الفانوس السحري"، و"طاقية الإخفاء"، وكل تلك الأيقونات الشعبية التي طالما نقلت (الشاطر حسن) أمام أعين الجمهور من الفقر إلى الغنى، ومن الصين إلى الكوفة، وبين الوجود واللاوجود؛ في غمضة عين.

ما يفعله السحر، إنه يفسّر اللامعقول. إنه يعقلن اللامعقول إن شئت. يمنح اللامعقول سبباً مفهوماً بالنسبة للمؤمن بالسحر. ومع التفسير تأتي الطمأنينة والأجوبة والحلول. فالسحر يفسّر الاختلاف الثقافيّ مع الخادمة الآسيوية الذي عجز المجتمع عن هضمه واستيعابه إلا عبر تفسيره بالسحر ومواجهته بالرقية والاضطهاد. والسّحر يفسّر الآلام النفسية التي يستولدها الشعور بالغبن أو القهر أو العجز عن فهم ما يجري، أو العجز عن السيطرة على الواقع أو تقرير المصير؛ كلها يمكن تفسيرها عوضاً عن التفسير المجتمعي العقلاني – الذي سيستتبع حلولاً مجتمعية عقلانية بالطبع – بأنها سحر. وإذا كانت آلامنا الذاتية نتيجة هذه الاختناقات المجتمعية (سحراً)، فإننا للتخلّص منها لا نحتاج إلى التعامل مع الواقع، أو تغيير شيء في الواقع، لكننا نحتاج إلى الانتقال بمحاولاتنا ومجهوداتنا ومطالباتنا إلى العالم الآخر، عالم السحر، ومنطقه وشخوصه وسدنته.

إن يحدث هذا في المشهد الاجتماعي، وإن يدخل عالم البزنس، والمؤسسات الرسمية إلى حيّز السحر، إن يدخل هذا العالم الضخم المعقّد إلى ذلك الحيّز الغامض الجذاب كثقبٍ أسود حالك، فإنه لا يعني أن المجتمع فقد عقله، لكنه قد يعني أن ذلك العالم شديد المادّية والعقلانية بطبيعته، بل الأشدّ مادّية وعقلانية، قد فقد عقله، أنّهُ بات يدور في عالم ٍمن اللامعقول، في ضخامته التي يعجز الفرد عن استيعابها، غموضه المذهل، تسارعه، افتقاره إلى التفسيرات أو المعنى أو المنطق. وسيكون دور بطل القصة (الموظف المسحور) – وراقيه، وجنيّه... – أن يتوّجوا حالة اللامعقول في المشهد الاقتصادي والاجتماعي. والبطل – الموظف المسحور – سيمثّل هنا مندوباً اجتماعياً ينطق باسم المجتمع محاولا عقلنة تفاصيل واقعة الإخلال بأمانة الوظيفة التي يعرفها هوَ أكثر من الجميع، وربما لهذا السبب بالذات، يُدرك هو أن لا شيء يمكنه تفسير ما يجري، إلا السحر.

ما أضيق العيش لولا فسحة السحر.