قبل أكثر من 1400 عام، كانت القبائل التي تعيش في المناطق القابلة للسكن في الجزيرة العربية تعيش وفق نمط قبلي يغلب عليه طابع البداوة الذي يكتفي بالأسس التي تقوم عليها احتياجاتهم لفترات زمنية قصيرة، دون ارتباط فعلي بالأرض التي يرتحلون عنها باستمرار، إذا لم توفر لهم مصادر الحياة الأولية والمهمة لديهم "الماء والكلأ"، ولم تنشأ تجمعات كبيرة تكوّن قرى أو مدنا إلا في الجهات التي توفر استقرارا قائما على هذه المصادر البدائية والبسيطة للحياة. لهذا، كانت مكة أكبر القرى التي نشأت حولها "أمّة من الناس" لوجود مصدر الماء فيها ولو كان شحيحا، ولوجود الرمز الديني "الكعبة" الذي اجتمعت عليه الناس وقتها وخلقت منه أصنامها ومعبوداتها الأخرى.
لكن هذه البقعة من العالم لم تحقق حضارة قوية وفاعلة موثقة تاريخيا كتلك التي كانت في مصر أو في بلاد النهرين وغيرهما في تلك الحقبة وما قبلها.
لم يتحقق لها هذا إلا بعد البعثة النبوية، وبدء الرسالة المحمدية التي انطلقت وفق أُسس مدنية واضحة، تجلت بعد صراع إثبات النبوة وترسيخ الإسلام وتعاليمه في مجتمع تغلب عليه القبلية الجامدة التي ترفض الآخر وتقاوم التغيير، خوفا من أن تسلب منها أساسيات الحياة البسيطة التي اعتادتها.
حينما وضع الرسول محمد، عليه السلام، أسس الدولة المدنية التي تجلت واضحة في ميثاق المدينة الشهير، بدأت معالم حضارة إسلامية في النشوء والتطور والامتداد إلى مساحات واسعة في العالم.
حضارة اعتنت بمختلف المعارف والعلوم والفنون التي كانت رائدة في معظمها، وصدرتها لاحقا إلى العالم الغربي الذي استقى منها الكثير في نموه المعرفي وعمل على تطويرها والتوسع فيها أكثر.
حضارة اتسعت لكل المشارب من البشر على اختلاف البيئات التي ينتمون إليها، وبمختلف التوجهات التي يؤمنون بها، بل إنها استفادت أيضا من أصحاب الديانات الأخرى دون فرض الدخول في الإسلام عليهم أو التقيد بمبادئه الروحية حتى يتم تشارك الحياة معهم دون إرباك.
كان هذا الاختلاف والتنوع يثري سير التحضر الذي انعكس على الفترة الذهبية للتاريخ الإسلامي.
حدثت بعد ذلك -في سياق تاريخي معروف- انتكاسة وتوقف تامّان لهذا النمو المعرفي والحضاري للعالم الإسلامي، ثم استلاب وتسليم للصراعات السياسية والمذهبية التي أعادت الشعوب الإسلامية والعربية إلى عزلتها الأولى، وإلى ظلام الجهل، والتسابق نحو الحرص على أساسيات الحياة الأولية دون نمو وتطور معرفي أو إسهام حضاري مفيد للعالم.
ما حدث من انتكاسة للحضارة الإسلامية حدث مثلها للحضارات السابقة التي بدأت قوية ثم ضعفت وتلاشت حينما دخلت إليها الصراعات التي لا تعنى بالعلم والفن.
أوروبا استيقظت متأخرة بعد حروب طاحنة وقتال باسم الكنيسة استمر بعضها عشرات السنين، ثم استفاقت من ذلك الوهم الذي قوض تطورها فترة طويلة، واستطاعت أن تعالج جراحاتها، وتستفيد من التجارب الإنسانية والعلمية المحيطة بها، وتستجلبها إليها سواء بصفتها المادية أو البشرية، وتعمل على تطويرها وتنميتها حتى أصبحت رائدة في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية، وقادت أمورها السياسية بطرق مدنية متحضرة لا تنعكس سلبا على سير التنمية المعرفية بها.
ومع اكتشاف الثروة النفطية كمصدر جديد للطاقة، ومساهمته في تغيير ملامح الاقتصاد العالمي والتنمية المتسارعة في بعض دول الشرق الأوسط التي تعتبر الممول الأكبر له، إلا أن الأيديولوجيات المختلفة بقيت تتحكم في مصائر بعض الدول، مسببة الصراعات المذهبية والانقسامات الطائفية التي جعلت "المنطقة" على صفيح ساخن، وتركت باب الأطماع في الحصول على ثرواتها على مصراعيه، لكن الإمارات العربية المتحدة نفضت عنها الركود الاقتصادي والاجتماعي والتنموي لتصبح المثال الأبرز للتطور الواضح، وأيقونة العالم اليوم في التغيير إلى الأفضل. فهي الآن تختلف تماما عما كانت عليه قبل 50 عاما، فقد أوجدت بيئة آمنة لفرص استثمارية وقوة اقتصادية فاعلة واستمرار تنموي ذكي، يخرج بخفة من جلباب النفط نحو مجالات أخرى أرحب تضمن هذا التقدم الاقتصادي، مع العيش بسلوك اجتماعي متحضر يحترم الحياة المدنية ويتوافق بانسجام مع إيقاع العولمة، ويسهم في الاعتناء بالإنسان دون انفصال عن هويته أو انسلاخ عن مبادئه الدينية والوطنية مع نفوذ سياسي واعتباري بين دول العالم.
الحضارة بوصفها نظاما اجتماعيا تتضافر فيه عوامل المكان والإنسان والقوى السياسية والاقتصادية، وتهتم بالعلوم النظرية والفنون الإنسانية المختلفة؛ تبدو هدفا غير مستحيل، يمكن أن يتشكل مجددا في حال وجهت الدول اهتمامها نحو البناء البشري الثري بالتنوع، وسخرت له الإمكانات المختلفة في سبيل خلق عهد جديد يخرجها من مسرح الحروب القائمة حاليا، ويتجه بها نحو الاستقرار.
ما تشهده المنطقة من متغيرات سياسية واقتصادية، قد تكون عنق زجاجة يختبر قدرة دول الخليج على الخروج منه بسلام، والاستفادة من دروس التاريخ التي تخبرنا أن الخضوع لأي أيديولوجيا يخنق الدول ويسلبها قيمتها الإنسانية والمدنية، وتستفيد من التجربة الإماراتية في البناء البشري والسياسي والاقتصادي المتزن لتخلق على الأقل حياة مدنية متحضرة، إن لم تستطع البدء في بناء حضارة جديدة فاعلة.