في القرن السابع عشر الميلادي التفتت أعين البريطانيين بعد الثورة المجيدة إلى "إسبارته" قرية صغيرة في اليونان وإلى تاريخها قبل ميلاد المسيح عليه السلام بـ500 عام، وجرَّاء هذه الالتفاتة البعيدة المدى تأسست الديموقراطية الحديثة التي نادت بالحريات والحقوق وقلَّصت سلطة الدولة لصالح نواب الشعب، وبعد 100 عام انتقلت هذه التجربة إلى فرنسا ولكنَّ مداها في التطبيق كان أبعد بكثير مما وصلت إليه بريطانيا، حيث أصبحت فرنسا المُصَدِّر الأول لثقافة الحرية والحقوق، التي تزامنت مع العصر الاستعماري الذي تتناقض متطلباته مع ما يقرره فلاسفة الثورة من الحقوق والحريات، فلم يكن ثُمَّ مخرج من هذا التناقض إلا بتسويغ العنصرية القومية التي أتاحت لساسة أوروبا فرصة الجبروت خارج أوطانهم، فذاق بعضهم بأس بعضٍ وأذاقوا غيرهم بأسَهم، فكانت الفترة الممتدة من بداية الثورة الفرنسية 1789 وحتى نهاية الحرب الفرنسية البروسية 1871 وبعدها بـ40 عاما الحربان الكونيتان 1914-1944 عصيبة ذاقت الشعوب فيها أنواع الوبال كنتيجة طبيعية لحروب شرسة بين جيوش مشربة بالعنصرية القومية التي كانت تعني: نحن فوق كل شيء في العالم، كما هو نص نشيد النازية.

هذه المآسي التي صنعتها الدول إضافةً إلى الثقافة التي انتشرت إذ ذاك كانتا أهم عاملين رسخا إيمان الشعوب بِقيم الثورتين حتى حَلَّت هذه القِيَم محل الدين في وزن أخلاق الناس وتصرفاتهم ورؤاهم، وحينما هيمنت أميركا بعد الحربين الكونيتين على سياسة الدول الأوروبية والعالم قامت بفرض قِيَم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة على أنظمة المؤسسات الدولية وعلى دول غرب أوروبا، وهي قِيَم تشبه كثيراً قيم الثورتين الأوربيتين، وتمتاز عنهما بالكثير من النصوص التي تضمن الحرية الدينية للمسلمين كنصوص الرئيسين جورج واشنطن 1789-1797 وتوماس جفرسون 1801-1809.

رافق فرض هذه القيم على السياسات الأوروبية وتغلغلها قبل ذلك في بنية ثقافة الفرد الأوربي توافد كثير من المسلمين إلى أصقاع غرب أوربا وشمالها لأسباب متعددة، منها حاجة أوروبا للمقاتلين واضطرارها لليد العاملة، وكثرة نظم الاستبداد والجبروت في بلاد المسلمين، وقد عانى النازحون الأول من ظروفٍ عنصرية في نظام الإقامة والعمل قبل الحربين، إلا أن ما قدَّمته من واقع قِيَم الحرية غَيّر من الحال كثيراً، وأصبحت النظم الديمقراطية تُقَدِّم للمسلمين أنواعاً من الدعم المادي والمعنوي، وتُسهِّل حركتهم في النشاط الديني وتأذن لهم باتخاذ المساجد والمدارس والجمعيات، وكانت ثقافة الحرية تُعَدُّ مصدراً لكل تلك التشريعات التي يستفيد منها كل اللاجئين إلى أوروبا بمختلف أديانهم، ولما كان المسلمون يُشكلون الغالبية النازحة نالوا الحظ الأوفر من الاستفادة منها.

وكانت الشعوب الأوربية التي تعلمت الحرية من شلالات دمائها درعاً يقي النازحين كثيراً من محاولات العنصريين والتنصيريين سلب المسلمين غطاء الحرية. مضت 50 عاماً بعد آخر الحروب الأوروبية والمسلمون لا يستفيدون مما تهيأ لهم من ظروف الحرية لحماية أنفسهم من الذوبان في المجتمع الأوروبي حتى إن أبناءهم فقدوا أكثر ما يميزه كمسلمين سوى لا إله إلا الله.

لكن النزوع إلى التدين الذي اجتاح العالم بعد زوال الآثار النفسية للحروب العالمية في الغرب وبعد ضعف الانبهار الحضاري في الشرق جعل مسلمي أوروبا يعودون كغيرهم إلى جذورهم ويُساعدهم في ذلك سيل النازحين المستمر حاملاً مثقفين ومتدينين وناشطين مسلمين، وكذلك تَخَرجُ عدد كبير من أبناء مسلمي أوروبا من الجامعات العربية لا سيما في المدينة والرياض، وإنشاء الدول الإسلامية كالسعودية ومصر عشرات المراكز الإسلامية، الأمر الذي جعل التحرك لدعوة المسلمين هناك للعودة إلى دينهم يؤتي ثماراً عجيبة وسريعة، ولم يعد مسلمو أوروبا يعتمدون بشكل كامل على المؤسسات المدعومة من الدول الإسلامية، بل أصبحت لهم مؤسساتهم التي يُنشئونها بأموالهم ويدعمونها من كد أيديهم، ونتج عن ذلك نشاط مباشر وغير مباشر في دعوة الأوربيين إلى الإسلام، ولاقت هذه الدعوة قبولاً منقطع النظير، ولا أحتاج نقلَ الإحصائيات للمسلمين الجدد في جميع دول الاتحاد الأوروبي فالحصول عليها متيسر للقارئ، لكن أشير إلى أن أقل التقديرات هي 12 مسلماً جديداً في اليوم الواحد وأعلى التقديرات هي 30 مسلماً، أما معدلات الإنجاب بين المسلمين في أوروبا فتفوق كثيراً معدلات النمو بين غير المسلمين، ففي فرنسا مثلاً بلغ معدل الخصوبة لدى غير المسلمين 1.8 ? ويقابله معدل الخصوبة لدى المسلمين 8.1 ? أي أن كل مولود فرنسي لغير المسلمين يُقَابله 8 مواليد فرنسيين مسلمين، ويمكن للقارئ تتبع الإحصاءات في بقية دول الاتحاد الأوربي ليجد أنها مماثلة لما في فرنسا أو أقل بقليل. بل للقارئ أن يتتبع نسب الكنائس وعدد روادها إلى المساجد وعدد روادها، وعدد المؤسسات الدينية النصرانية وحجم مخرجاتها وما يقابلها من المؤسسات الإسلامية. من هنا تنامت التيارات العنصرية في مُختَلِف الدول الأوروبية وبدأ الحديث عن الحرية المطلقة للأديان يُصبِح محل نقد وإعادة نظر، ولكن العنصريين ما زالوا رغم ارتفاع أصواتهم ضعفاء في قدرتهم على تغيير الأنظمة المستندة إلى نظريات في الحرية أصبحت ثقافة شعبية وسياسية من الصعب اقتلاعها، فأصبحوا يشعرون أنهم سيكونون أشقياء بديموقراطيتهم، فلم يَعُد أمامهم إلا أن يستسلموا للواقع حتى يروا الإسلام سيد الموقف في أوروبا كما يؤكد ذلك المعنيون بالديمغرافيا خلال سنوات لا تتجاوز العشرين، وإما أن يقفوا في وجه نمو الإسلام في أوروبا بكل طاقتهم، وهذا ما اختاروه، منذ زمن، لكن الآلة الوحيدة لهم كانت التشويه الإعلامي لصورة المسلمين، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً لدرجة أننا رأينا سياسيين وفنانين ورياضيين ومثقفين كباراً ولامعين عالمياً يعتنقون الإسلام كنتيجة صغرى من نتائج حملات التشويه المفضوحة.

هنا يمكننا القول إنهم بدؤوا بمعاونة قوى ظاهرة وخفية في العمل على أن يقوم المسلمون أنفسهم بتشويه دينهم، فاشتغل إعلامهم بإبراز كل التشوهات والنتوءات الموجودة على جسد الأمة المسلمة، ومن ذلك الجرائم التي تُرتكب تحت ذرائع دينية كأفعال المنظمات التكفيرية الزَّاعمة تمثيل الإسلام، فأصبحت أخبارها تعلوا كل الأخبار، وأسوأ هذه الجرائم ما يُنْتِجُ هزات عنيفة داخل أوروبا تملؤ قلوب الناس ذعراً يمكن استغلاله في محاولة نزع فكرة الحرية للجميع من قلوب الشعوب والمؤسسات السياسية.

إن فكرة "الإسلام قدرُ أوروبا القادم" أكثر الأفكار إزعاجاً لدهاقنة التخطيط الاستراتيجي الأوربيين لكنها للأسف أقل الأفكار لفتاً لأنظارنا نحن المسلمين خارج أوروبا، إن هذا القدر القادم بمشيئة الله سيُضاف إلى قائمة الفتوح العريضة التي أنجزها الإسلام بنفسه فيجب علينا أن نتحرك على جميع الصُّعُد لاستقباله والتخطيط من أجله فهذا أقل ما يُمكن أن نُقَدِّمه له.

كما أنَ علينا الوقوف مع مسلمي أوروبا في وجه كل العقبات التي تعترض مستقبل قارتهم الزاهر، ومن ذلك رفع الصوت بأقصى ما يمكن من الارتفاع في استنكار الجرائم التي تقع في أرضهم باسم دينهم بُغية استئصالهم من تلك الأرض أو انتزاعهم من هذا الدين.

إن استحضار جرائم الأوربيين في العالم الإسلامي كلما وقعت عليهم جريمة منسوبة لبعض سفهائنا لا يفيدنا في شيء، بل يضر بمشروعنا الإسلامي الكبير في أوروبا وهو مخالف للسياسة الشرعية والكياسة الطبيعية ولتراثنا الزاهر في البشرية فنبينا صلى الله عليه وسلم قال لملك الجبال: "إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا"، وصلاح الدين الأيوبي أرسل الصليبيين آمنين على أنفسهم وأموالهم ولم يستحضر قتلهم تسعين ألفا حين استولوا على القدس.