حين يقتحم اللصوص بيوتنا أويسرقون مكاتبنا، فهذه للوهلة الأولى مشكلة خاصة، لكنهم حين يسرقون مكاتب أصدقائنا وبيوت جيراننا وعلى بعد أمتار وبفارق زمني بسيط، فهذه مشكلة عامة خطيرة تستدعي السؤال عن قدرات اللصوص وحجم السرقات !... بمعنى: ما حجم الظاهرة بين أولئك الذين لا يقعون في دائرة علاقاتنا أومعرفتنا؟ وهل ارتفع سقف مطالب اللصوص عن ذي قبل ؟ ثم هل هناك علاقة بين اللصوصية والفقر؟
ظل أنبوب الغاز لفترة طويلة رمزاً ثقافياً واقتصادياً للصوصية والسرقة في مجتمعنا، واعتقد كثيرون أنه رسم خط الطموح أوخط الاحتياج للصوص والسارقين وذوي المهن المجاورة المنصوص عليها في القانون الرسمي وتلك المتروكة للقاموس غير الرسمي. كما أن أنبوب الغاز كان قاسماً مشتركاً وحيداً بين لصوص المدن ولصوص الريف. فكانت هناك جملة من الفرضيات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وراء نظرية أنبوب الغاز تلك. إحداها ترى أن لصوص أنابيب الغاز هم فقراء وأن الفقير لا يطمع بأكثر من أنبوب غاز. فعليه يطبخ أهل بيته ويتدفؤون ويتميز بإمكانية تعبئته مرات عدة. في حين كانت هناك نظرية اقتصادية في التحليل بفرضية مؤداها أن اللصوص ليسوا فقراء، بل هم خبراء اقتصاديون يديرون مشاريعهم بعقلية تضاهي أوتفوق عقلية القطاع الخاص وأنهم يفهمون السوق جيدا وأنهم يستندون إلى "دراسات جدوى" يبنون عليها قراراتهم "الاستثمارية".
ويجد الساخرون في أنبوب الغاز مادة للسخرية من تعريف منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي للفقر وأن تعريف الفقير ليس من يعادل دخله اليومي دولاراً، وإنما من يمكنه جسديا وعقليا وأخلاقيا أن يحمل أنبوب غاز على ظهره دون مساعدة أحد ولا يكشفه أحد.
ما لبث بعدها أن دخل اللصوص سوق الحديد، فكانت معارك الكر والفر بين صاحب الحديد ولصوص الحديد، تنتهي عادة بتحييد المقاولين أو ضمهم لأحد الفريقين. اليوم أصبح اللصوص في طول المدن وعرضها، يخططون، ويشرفون وينفذون سرقاتهم بمهارات فائقة تضاهي المخططين والمنفذين البارعين والمتخصصين في مكافحة السرقات والجرائم. وقد تعلم اللصوص والسارقون أن يسرقوا الأشياء الثمينة.. فلم يعد لأنابيب الغاز جدوى اقتصادية، ولا تنطبق عليها مقولة: "ما خف وزنه وزادت قيمته" إنها السرقة الذكية..! ألسنا في العصر الذكي؟ والمباني الذكية والجامعات الذكية والتقنية الذكية ؟ وربما أنهم وصلوا حتى لتسويق مسروقاتهم بالطرق الذكية. فبدلا من أن يبيعوا تلك المسروقات في "حراج بن قاسم" مثلاً، ربما كانت لديهم مواقع وأساليب تقنية إلكترونية تغنيهم عن افتضاح أمرهم، وكشف عصاباتهم.
بمناسبة الحديث عن التقنية الحديثة، لماذا لا تكافح سرقات المحلات التجارية والبيوت السكنية بكاميرات مرتبطة بشبكة رسمية من الكاميرات مثل شبكة نظام ساهر أوتلك الشبكات التي تراقب البنوك وصرافاتها أوالمنشآت العامة والشركات، فتوضع تلك الكاميرات أمام البيوت والمحلات التجارية فقط لمن يرغب ويوافق بذلك من أصحابها لأن تركيب الكاميرات الخاصة لا يحمي بسبب استهدافها المباشر من "السادة" اللصوص. أعرف أن هناك من سيرفضون هذا النظام الرقابي من منطلق احترام الخصوصية لهم ولبيوتهم، لكن الضرورات القصوى تحتم أن تكشف شبكات اللصوص تلك وأن تعلن للملأ، ويعرف الرأي العام إن كانوا من الفقراء أم من العابثين والمتحللين من كل شيء أخلاقي وقيمي. إن كشف هؤلاء اللصوص يستحق الدراسة الجادة، حتى لواضطر الناس أن يدفعوا رسوم اشتراك بذلك النظام الرقابي، تماما مثل الاشتراك بالماء والكهرباء، ويحق لأصحاب تلك البيوت والمحلات إقفال تلك الكاميرات متى شاؤوا وأرادوا ذلك.
دعونا نستثمر في "أخلاقيات" التقنية لمراقبة الشاذين اللصوص، لأننا في مرحلة اختلطت فيها علينا الأخلاقيات، لكي نحمي مجتمعاتنا من اللصوص والسارقين وغيرهم ممن احترفوا تلك المهن ليس لأنهم معوزون أوفقراء، وإنما من منطلق احترافهم وامتهانهم للسرقات واللصوصية ونزع قيم المجتمع وخلط الأوراق، بالقول بأن الفقراء هم من يسرقون البيوت والمحلات التجارية والفقراء الحقيقيون براء من تلك الممارسات.