في الحالة الأولى: تجاهد أم "س" بياض نهارها الطويل من الفجر حتى الشفق من أجل الحد الأدنى من الكفاف والكفاية لبناتها الأربع وابنها الوحيد. وحينما فشلت في تدبر أمر وظيفة "مستخدمة" في كل آلاف مدارسنا، اقتحمت هذه المجاهدة أسوار مجمع إداري تعليمي ضخم لتبيع بداخله "قرصان" الخبز وأكواب الشاي والقهوة. وقبل عام فقط تمكنت من شراء سيارة بالية مستخدمة وبالتقسيط الشهري وأعطت مفاتيحها للطفل الوحيد البار لينقل أخواته الأربع كل صباح إلى مدرستين ويأخذ أمه مع أقراص خبزها الساخنة إلى مكان وظيفتها الافتراضية، ثم يذهب إلى مدرسته التي لم يحضر بها على الإطلاق حصتها السابعة، رغم أنه أيضا لا يحضر الحصة الأولى كاملة لتباعد المسافة ما بين هذه المشاوير. كان خبز الأم الساخن كل صباح إشراقة أمل رغم أن خراجه الضئيل يتوزع ما بين قسط السيارة نهاية الشهر وبين حاجات الكفاف الأدنى لخمس نساء وطفل في الثانية الثانوية. هنا المفاجأة: حادث سير يقتل كل أحلام خمس نساء. يرقد الابن الوحيد اليوم في العناية المركزة. أخواته الأربع لا يذهبن إلى المدرسة ووالدتهم تقضي كل ساعات اليوم كاملة في دهاليز المستشفى وتنام آخر المساء أمام باب مسجده. لم تعد الآمال وحد الطموح في بضع مئات من خراج "الخبز" وأكواب الشاي والقهوة، بل انحسرت إلى هموم القسط الشهري البسيط للسيارة التي كاد حطامها يأخذ معه الابن السند الوحيد. هؤلاء لم يعد في قاموس أحلامهم سيارة بديل، بل كيف يتدبرون ما تبقى من 14 شهرا مقبلة من إلزام القسط السابق.
في الحالة الثانية: بوفاة ابنها الوحيد قبل بضعة أشهر، وجدت أم "ع" نفسها تهبط إلى مجرد "1830" ريالا في الشهر، بعد أن كانت تعيش معه على دخل شهري كان يبلغ "5240" هي حصته من مخصصات التأمينات الاجتماعية إثر تقاعده المبكر جدا بعد إصابة عمل بالغة جعلته طريح الغرفة والسرير لسبع عشرة سنة. عاشت هذه المرأة من أجل ولدها الذي كان مقعدا بشلل نصفي وكان دخل مخصصاته الشهري من التأمينات كافيا لأم لا تطلب سوى الكفاف وابن لم يغادر غرفته منذ 17 سنة. تدفع الأم اليوم 700 ريال لأجرة البيت الشعبي المتهالك، ثم يبقى لها "1130" ريالا تتحرك فيها لثلاثين يوما في الشهر، وكل ما أكتبه اليوم بين يدي أهل الخير والفضل والإحسان ليس إلا العبرة من حالة وفاة أو حادث سير ثم ينهيان في "حالتين" فقط آمال ست نساء من حياة كفاف. نحن لسنا في رواندا ولا في أوغندا كي لا تستطيع أربع من بناتكم الذهاب إلى مدرستهن.