ننحاز للجمال ونسكن في فكرة جميلة حين تضيق بنا الحياة (فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل) كما قال الشاعر، ونسأل بماذا ضاقت الحياة بنا على اتساعها فأصبحت مدن العالم مهربا لا للسياح المأخوذين بالجمال، بل للمتعبين اللاهثين الباحثين عن مهرب من إيقاع الحياة الخانق لهم.

يعود الجبلي إلى بيته الذي يسكنه فوق قمم الجبال فلا يرى سوى السحاب امتدادا أبيض يلف ما حوله؛ ويهرب الصحراوي إلى اتساع صحرائه؛ وتضيق السواحل بسكانها فيرحلون في مجاهل البحر بحثا عن امتداد لا متناه لزرقة تسكن أرواحهم قبل أعينهم.

لماذا ضاقت بنا المدن رغم اتساعها وامتدادها؟! سؤال نلقيه على كل امتداد في التذاكر التي أصبحت إلكترونية لتلاحق رغباتنا العنكبوتية، كما نلقي السؤال على البحر والبر والسحاب! فهل نحن من اختزل الفرح في البعيد فأعيتنا ملاحقته؟! وأضنانا الألم الذي يسكننا أو نسكنه ونأبى مغادرته فلم يعد للورد إلا أشواك؛ وألفنا الفرح الغائب فغاب الفرح الحاضر.

العم جمال لم يكن يطرح هذه الأسئلة أبدا منذ أن وعى أنه ولد سعيد!

ولد جمال في بيت رأى في ملامحه جمالا أخاذا فأسماه والده جمال؛ كان بيت جمال بيتا عربيا، أمه ككل الأمهات تخبز الخبز وتصنع القهوة وترحب بالضيوف بكل ما تملك من بشاشة؛ فكبر جمال سعيدا حتى سمي جمال السعيد!

عاش جمال كل أوجاع جيله وخيبتهم ونكساتهم ودهشتهم؛ لكنه كان يملك رؤيته الخاصة المتفائلة التي تنتظر أن تشرق الشمس على الأزقة الباردة؛ وأن تغرب عن الصحارى اللاهبة!

عرف جمال أنه يملك موهبة اكتشاف روح الأشياء التي تتوارى بداخلها فتعلم تحويل القطع والأجزاء إلى أفكار جديدة قبل أن يعي أنه يمارس الاختراع. قيل له: احفظ اختراعاتك ودونها باسمك.. بحث في وطنه عمن يحمي له حقوقه فلم يجد؛ لكن تجار الأفكار لاحقوه بثمن بخس لينالوا مكاسبهم ويثروا أكثر من خلاله فرفض أن يبيعهم ونسي جمال كيف يصنع ما كان يصنعه!

جمال السعيد يسكن في مدينة عربية الملامح تغيرت ملامحها بسبب عوامل الحياة فضاقت بيوت الجيران بأهلها إلا بيتهم؛ وحل الغرباء محل الأقرباء! فقرر يوما أن يكتب كتابا عن ملامح المدينة الجديدة؛ أسماء شوارعها التي اختارها لها القادمون من مدن وراء البحار؛ وعبارات الحب لأوطانهم التي تكتب على سيارات النقل التي يقودونها. كتب كتابه؛ ودون كل مشاهداته من أول طفل غير عربي رآه إلى أول امرأة غير عربية تخفي هويتها بلباس نساء المدينة. حمل كتابه إلى إحدى المطابع القريبة، ولكنه لم يحصل على سماح له بنشر هذا الكتاب لأنه يمس هوية المدينة ويحوي معلومات قد تفيد العدو.

كان يحب كتابة الشعر؛ ذات يوم أقنعه أصدقاؤه أن يتجه إلى مجلة في بلده تنشر إبداعه ففعل؛ وذهب إلى النادي حاملا كل قصائده الجميلة؛ في نادي المدينة كانت ملامح النصوص المستوردة أو الرديئة التي تعرض تضيق بنصوصه فبقي شعره بانتظار السماح؛ لكن همهمة بين اثنين وصلت إليه، أحدهما منصف قال: (إن شعره جيد والآخر قال: أعلم ولكننا لن نسمح له أن يظهر علينا، فلو فتحنا له المجال لن يبقى لنا مكان)! اكتشف حينها أن المدينة تقتل المبدعين!

على حافة نهر الحيرة بقي جمال يسمى السعيد، لكنه لم يعد يعي معنى الشطر الثاني من اسمه؛ كما بدأ يشك بمعنى الشطر الأول حين عبرت فتاتان سخرتا من ملامحه الهرمة!

تساءل: متى مرّ الزمان الذي اختصر كل جماله في بقايا تسخر منها الصبايا!

سقط مقذوف على بيت جمال فهدم نصفه وبقي النصف الثاني شاهدا على حزن الطين على بعضه المنهار!

لم يكن المال الذي اضطره إلى بيع كل ما صنع أو كتب هو مشكلته الوحيدة، لكن حزنه تضاعف حين غيب الموت الرجل الثري الذي اشترى شعره وكتبه اللاحقة، وأخذ يقرأ نصوصه مذيلة بتوقيع الراحل، وكان الجميع يعلن الألم لموت الإبداع الخاص به الذي سلبه منه المشتري!

عقدت الندوات عن الأديب الراحل ووضعت جائزة باسمه؛ وكان جمال حاضرا في كل تلك المناسبات..

استبد الحزن بالعم جمال، وحاول أن يستعيد نصوصه؛ لم يجد بدا من أن يذهب إلى دائرة الهويات وغير اسمه ليصبح على اسم الذي ابتاعها منه.

عاد للكتابة وحاول أن ينشر باسمه الجديد لكن الصحف اعتذرت منه حفاظا على هوية الأديب العظيم الراحل..فأوشك أن يصرخ ولكنني مازلت هنا!

قدم نصوصه للناقد العظيم فنصحه ألا يحاكي أحدا وأن يكون هو نفسه!

كتب نصوصه الجديدة في مدونته الخاصة ووضع تعريفا بنفسه: أديب يحاكي الأديب الراحل الذي يشبه اسمه، ويتمنى الموت لأنه السبيل الوحيد الذي يثمن فيه العرب إبداع الأحياء!