تحدثنا في مقال سابق عن العنصر الأول في البناء الحضاري عند مالك بن نبي، وهو عنصر الإنسان، وعرفنا أن الفرد يؤثر في المجتمع بثلاثة مؤثرات: أولاً بفكره وثقافته، وثانياً بعمله، وثالثاً بماله. وبذلك فإن بناء الحضارة يقتضي توجيه الإنسان في النواحي الثلاث: توجيه الفكر(الثقافة)، وتوجيه العمل، وتوجيه رأس المال، وتحدثنا عن المؤثر الأول وهو توجيه الفكر والثقافة. واليوم نكمل الحديث عن المؤثرين الثاني والثالث في الإنسان، ثم نتطرق إلى العنصرين الثاني والثالث في المعادلة الحضارية بعد الإنسان، وهما التراب والوقت.
أما المؤثر الثاني من معادلة الحضارة، فهو توجيه العمل، وهو الذي يخط مصير الأشياء في المجتمعات، وبالرغم من أنه ليس من العناصر الأساسية في بناء الحضارة، كالإنسان والزمن والتراب، إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة، لا من الكلام الذي لا رصيد له على أرض الواقع، ولا يؤدي إلى عمل فعال في المجتمع.
هنا يوضح مالك بن نبي فكرة العمل وتوجيه العمل لتضافر الجهود الجماعية نحو وجهة وهدف وغاية واحدة، فتوجيه العمل هو عملية تأليف لكل الجهود الفردية بطريقة فعالة لتغيير وضع الإنسان في مجتمع ما ولخلق بيئة جديدة، ومن هذه البيئة يشتق العمل المعنى الآخر الذي يرتبط دائماً في أذهاننا، وهو كسب العيش لكل فرد.
وبذلك يؤكد مالك بن نبي على هذا المفهوم، فيقول (والواقع أنه يجب أن يكون التوجيه المنهجي للعمل شرطاً عاماً أولاً ثم وسيلة خاصة لكسب الحياة بعد ذلك. لأن هذا التوجيه حين يتحد مع توجيه الثقافة وتوجيه رأس المال يفتح مجالات جديدة للعمل).
وبالنسبة للمؤثر الثالث، وهو توجيه رأس المال.. فيفرق مالك بن نبي بين مفهوم الثروة ومفهوم رأس المال. فالثروة بالنسبة لصاحبها مركز اجتماعي ومكاسب شخصية محلية غير متحركة وغير داخلة في الدورة الاقتصادية، وبذلك فليس لها عمل مستقل كقوة مالية داخلة في بناء الصناعة والتجارة والاقتصاد كما هو الحال في مفهوم رأس المال متعدي المصلحة للغير، داخل في منظومة بناء الاقتصاد، يخلق حركة ونشاطاً، وبذلك فهو داخل في منظومة بناء الاقتصاد. فيقول (فالثروة تلقب بصاحبها، أما رأس المال فإنه ينفصل اسماً عن صاحبه ويصبح قوة مالية مجردة، وهذا شيء معروف عند الاقتصاديين).
فالدرهم الذي يتحرك وينتقل ويدخل ويخرج عبر الحدود يسمى رأس مال، أما المليار من الدراهم المستقر الساكن، فهو ثروة ذات محيط ضيق.
إذًا فإن أي مجتمع يسعى إلى بناء حضارته الفعالة لا بد أن يصبح همه الأول أن يجعل كل قطعة مالية تتحرك وتنتقل وبتوجيه مدروس، لكي تخلق بحركتها العمل والنشاط للمجتمع ككل.
وبذلك كما يؤكد مالك بن نبي فإن القضية ليست في تكديس الثروات، وإنما في تنشيط حركة المال وتوجيهه ليتحول معناها الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رؤوس أموال متحركة عاملة.
تنشط الفكر والعمل والحياة وتحقق أكبر قدر من توفير فرص مساهمة الشعب بكل طبقاته في تلك الحركة، مما سيؤدي إلى معالجة قضية الفقر في مجتمع يسعى إلى حضارة حقيقية وانسجام مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد.
وينبه مالك بن نبي إلى الضرورة القصوى لتكوين مجالس لتوجيه الثروة وتوظيفها وتحويلها إلى رأس مال متحرك عامل نافع فعال في بناء الحضارة.
العنصر الثاني: التراب.. ويتحدث مالك بن بني عن التراب من حيث قيمته الاجتماعية، ويؤكد أن هذه القيمة مستمدة من قيمة مالكيه، فيقول (فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة، وحين تكون الأمة متخلفة –كما هي الآن– سيكون التراب على قدرها من الانحطاط).
وهذه حقيقة مؤلمة في عالمنا العربي، فهناك دول فقيرة تعيش على تربة أرض تعد من أفضل مناطق الزراعة في العالم، ولكنها تعجز أن تخرج من أرضها كنوز الذهب من زروع وأشجار وثمار، في حين أن دولاً أخرى مثل هولندا يعد أكثر من ثلث أرضها من صنع أيدي أهلها.
ويؤكد مالك بن نبي أن الأجيال القادمة ستدفع ثمن عملنا اليوم، وأن إخضاع التراب هو تمهيد لبناء الحضارات واستمرار نموها.
وأود أن أضيف هنا أن التراب كذلك هو ما تخرجه الأرض من خيرات بكل أشكالها وصورها ولا يقتصر على الزراعة، فالمواد الخام والعناصر الثمينة والبترول، كلها من ثمار الأرض والتراب. واستخراج هذه الثروات بالعمل، لا بد أن يقترن بالتوجيه والفكر لكي تسخر هذه الخيرات في بناء الحضارات، لا في شراء المكدسات الحضارية كما فعلت كثير من الدول النفطية في فترات من عمرها وفي أوج دخلها من عائدات النفط.
العنصر الثالث: الوقت.. سأبدأ في تقديم مثال من عصرنا الحديث لتوضيح مفهوم الوقت الذي نتحدث عنه هنا: فقد أورد مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة مقالاً لتوضيح دور الوقت بألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية.. حرب خلفت وراءها ألمانيا عام 1945 محطمة تحطيماً كاملاً دون أي أساس لبناء نهضتها. شعب لم يبق لديه من وسائل النهوض بعد الحرب إلا الإنسان والتراب والزمن، وفوق كل ذلك محتلة من أربع دول، ومع ذلك وبعد 10 أعوام فقط، انبعث شعب جديد من الموت والدمار منشئاً الصناعات العظيمة.. وبنظرة سباقة ومحللة لتلك المعجزة الإنسانية والعوامل التي ساهمت في تحقيق ذلك الإنجاز العظيم، نجد أن أهم عامل من تلك العوامل هو الزمن، حيث فرضت الحكومة عام 1948 على الشعب الألماني كله نساءً وأطفالاً ورجالاً التطوع لمدة ساعتين في اليوم زيادة على عمله الطبيعي تطوعاً للصالح العام، وسمي هذا العمل، التجنيد العام للمصلحة العامة.
إذًا فالقيمة الحقيقية للزمن تنبع من القيمة التي نعطيها نحن للزمن، هذه القيمة التي لن تجدها إلا في فكر ونفس كل فرد من أفراد الوطن، وليس من وسيلة لمضاعفتها إلا بالتعليم والتربية، وذلك بأن نعلم الفرد المسلم علم الزمن حتى يصبح رأس المال الحقيقي هو دقات الثانية والدقيقة. إنه مفهوم الزمن الداخل في تكوين كل فكرة وكل نشاط وفي تكوين المعاني والأشياء.
بل إن علَّمنا كل فرد في المجتمع المسلم -كمجتمعنا- تخصيص نصف ساعة فقط يوميا لأداء واجب معين، فسيفاجأ آخر العام بحصيلة هائلة من ساعات العمل للمصلحة العامة.
وفي مقال قادم إن شاء الله سنتحدث عن أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارات، والبعد العامودي لعلاقة الإنسان بالسماء كشرط رئيس على قدرة الإنسان على التفاعل مع البعد الأفقي.