في صبيحة يوم التفجير في باريس حيث قُتل غيلة المئات من الأبرياء على مسرح باتاكلان لم تكن باريس وحدها من تصحو على هذه الفاجعة، بل إن كثيرا من الرؤوس استيقظت لتبث سمومها وتردد أصوات الشماتة والابتهاج بالقتل والعنف والدماء والنار وترديد عبارات الثأر التاريخي والسياسي وكأنما كانوا -وهم الكثرة السائدة- ينامون على قنابل موقوته تطلب الدم والثأر وتخرج لسان الشماتة وتستشهد بالمقايضة بين هنا وهناك، بين قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، وإن كان مجرد بريء مقابل بريء آخر في مكان ما من هذا العالم.

المنطق الدموي الذي ظهرت نبرته وتعالت لم يكن وليد اللحظة، ولم يكن صدفة عابرة لتفريغ فكرة عابرة، بل تراكم ذهني تاريخي لفكر الثأر والانتقام وغياب مبدأ المسامحة والغفران والتفريق بين الإنسان البريء والجندي المقاتل، بين من هم على أرض المسرح ومن هم على أرض المعركة، وهنا يكمن الفارق الكبير.

من يرون هذا الفارق قلة قليلة، وهم يرون أيضا أن العنف يولد العنف. ومن الطبيعي مع غياب ثقافة "الغفران والتسامح" والتفريق بين المعركة الحقيقية وقتل الأبرياء أن تظهر القسوة ويزداد العنف. وأذكر هنا قصة الشعب الذي خرج من جحيم العنف وتصديره (الشعب الياباني) حين ألقت أميركا قبل 70 عاما القنبلة الذرية عليهم وقتل فيها مئات الألوف؛ ساد بينهم عرف قوي يتضح لك حين تسأل مواطنا يابانيا الآن عن أميركا ليجيب على تساؤلك: هذه أصبحت قصة قديمة حدثت بين أجدادنا وأجدادهم وانتهت بالحب والغفران، لأجل أن يحيا أولادنا وأولادهم بسلام، فلو بقينا نرد الإساءة بالإساءة فمتى ستنتهي؟

وهنا نحن اليوم نشهد كثيرا من العرب الشامتين بضحايا باريس، والدافع إلى هذا حسب منهجهم هو جرائم فرنسا الاستعمارية والسياسية التي لم يرتكبها ولم يقم بها أي من الضحايا الذين تم قتلهم بدم بارد. ليس كل البشر اليوم قادرين على أن يكونوا أسوياء، هذه حقيقة بعد أن فضحت آلة القتل التي تجتاح العالم الإنسان الحقيقي وأنصاف البشر الذي يحملون في رؤوسهم الرغبة في القتل والعنف غير المبرر.