باريس من المدن الحميمة جدا في العالم، إذ لم تشعرني يوما أنني مغترب رغم كل شيء، بل إن من يزورها يشعر أنها تنتمي إليه بكل تفاصيلها، وشوارعها وأزقتها المتعرجة التي تأخذ الماشي إلى حيث تريد لا حيث يريد هو.
ولكن جاءت الهجمات الإرهابية على العاصمة الفرنسية في الـ13 من نوفمبر الجاري بمفاجأة كبرى لا تقل عن مفاجأة 11 سبتمبر في الولايات المتحدة قبل 15 عاما، في ظل شرق أوسط مضطرب بات أرضا خصبة لممارسة الإرهاب، وفي ظل سقوط أنظمة سياسية سابقة، وتفكك بعض الدول، إذ هدفت هذه العملية إلى ضرب مركز التنوير والحرية والثورة على قيم التطرف في العالم.
وربما أن فرنسا خاصة -ودول أوروبا عامة- لا تواجه أزمة إرهاب عابرة، إنما تواجه أزمة في تغيير موازين قواها الثقافية والاجتماعية والفكرية، خلال نشوء بؤر متطرفة في أحياء فقيرة من المهاجرين الذين قدموا قبل عقود وحصل بعضهم على الجنسية، وولد ليهم أبناء وأحفاد يكونون أربعة أجيال، ولكن تمحورهم حول ذواتهم وثقافتهم وعدم قدرتهم على الاندماج هي جزء من معاناتهم الأسرية، وشكل من أشكال معاناة الدولة والمجتمع الأوروبي معهم أيضا في هذه الأحياء "القصية" والمغلقة، ومنها حي مولينبيك في بروكسل المعروف بحي "قندهار" البلجيكي، والذي ينتمي إليه العقل المدبر لهجمات باريس، البلجيكي من أصل مغربي عبدالحميد أبا عود.
يعيش الأفراد المهاجرون في الدولة الأوروبية، في شبه عزلة عن بقية أفراد المجتمع الأوروبي، وهي عزلة ربما لم يختاروها ولكن الظروف فرضتها عليهم، فعدم إدماجهم في المجتمعات الأوروبية، وعدم قبولهم هم أنفسهم بهذا الاندماج جعلهم يشعرون أنهم لا ينتمون إلى هذا البلد حتى لو حملوا جنسيته أو لم يحملوها، كما يشعرون بأنهم لا يتمتعون بكل الميزات التي تتمتع بها المجتمعات الأوروبية في ظل نظرة قصور ودونية إليهم، غير أن الحقيقة تقول إنهم يتمتعون بحقوق لم يحلموا بالتمتع بها في بلدانهم الأم، بل إن بعضهم يكون ملاحقا قضائيا أو أمنيا أو سياسيا في بلده، لكن تركيبة عقله "الأيديولوجية" تجعله يكره كل شيء، ويحاول الانتقام من الجميع، وينمو لديه سلوك الانفصال الفكري والمجتمعي في ظل الجهل والفقر والجريمة المنظمة.
إن أزمة فرنسا الحالية تقع على عاتق أوروبا التي سمحت للفكر المتطرف بالتغلغل في المجتمعات الأوروبية، نتيجة إهمال تنموي يتقدمه الإهمال الثقافي والتربوي والاقتصادي، وما يحدث في عواصم ومدن أوروبا كل فترة ينذر بأن خطر الإرهاب على أوروبا ليس نابعا من الخارج بالقدر الذي ينبع فيه من الداخل الأوروبي بسبب الإهمال، إذ إن الفكرة السائدة اليوم هي أن مبادئ القانون والحقوق والحريات التي تساوي بين الجميع، قد أتاحت ظهور خلايا نائمة هي بمثابة خلايا سرطانية تعمل على مهاجمة الخلايا السليمة في الجسد نفسه، ولذلك وجب على أوروبا أن تحمي نفسها ولو بقوانين الطوارئ!
فجريمة باريس الإرهابية التي خُطط لها في سورية، ونُظمت في بلجيكا، ونُفذت في فرنسا؛ تثبت أن الخطر على أوروبا قادم من بعض أبنائها الذين يتمتعون بالمساواة والحقوق أمام القانون، لكن لديهم توجهات وأفكار مختلفة مضادة لفكرة الدولة والسلام والمواطنة، مثلهم في ذلك مثل أقرانهم في البلدان العربية الأخرى الذين آثروا الانفصال فعليا عن مجتمعاتهم وتراودهم أفكار التدمير والانتقام.
وحوادث الإرهاب هذه أدت إلى ظهور تكريس "الإسلاموفوبيا" لدى المجتمعات الغربية؛ مما أضر بالمسلمين المسالمين المحققين لشروط المواطنة وبناء وتنمية بلدانهم، وهذا ما يجعل ضرورة إجراء دراسات تؤدي إلى حلول حول حالة التقبّل والتعايش والاندماج بين "الآخر" الإسلامي و"الآخر" الأوروبي، على اعتبار أن المكون الثقافي الإسلامي ليس جزءا أصيلا من المكون الأوروبي حتى الآن، وهذه الحقيقة أسهم فيها الطرفان، غير أن ما يريد الأوروبيون ضمانته هو عدم تهديد مكوناتهم الثقافية الحديثة القائمة على العلمانية.
فالأوروبيون يرون أن الخلفية الفكرية للإسلام السياسي يجب أن تخضع لجراحة ذاتية معقدة، تشبه عمليات فصل التوائم السيامية، يتم فيها الفصل بين الممارسات السلوكية والتراث الفكري الذي يعتمده المتطرفون حتى في كراهيتهم للآخر؛ وأوروبا تريد اليوم ضوابط محددة تضمن فيها عدم تورطها مع هذه الثقافة الإسلامية المتشددة التي نقلها المهاجرون، ولهذا قد تسنّ أوروبا قوانين جديدة أكثر صرامة ربما تشهد حالات من الترحيل وإسقاط الجنسية عن كل الذين يهددون وجود المجتمعات الأوروبية، على اعتبار أن آخر الطب الكي.
وهنا، فإن الأجيال الأوروبية المولودة من مهاجرين مسلمين، والحكومات الأوروبية على السواء، أمام حالة اختبار جديدة لبث حالة جديدة من التنوير تضمن حصانة فكرية ضد أي اختراق لمبادئ عصر التنوير.