بين يدي مجموعة نصوص للشاعرة نور البواردي تحمل عنوان "الصبيّة التي تحاول أن تقول أشياء جميلة".. عنوانٌ يقول صوت التجربة؛ يعانق الحياة محلوماً بها وضرراً فادحا حين تنقشع غلالة الحلم. التجربة المعاشة في البينيّة، تعبُرُ في الندى وتخوضُ في ممرّاتٍ مأهولة بالزجاج المكسور. على الحدّ الموّلد للانشداد والتوتّر والانغمار في شظايا الداخل والخارج. ذلك الحدّ من التماس تنهض به التجربة كعلامة تعرّف على الذات؛ الموشومة بالقيد الاجتماعي ومحاولة الزحزحة نحو "عالم شاسع، فيه طفلةٌ تبعثرُ أوراقَها، تطلقُ ضفيرتَها".
الجملة الأولى في هذه المجموعة "أطيل النّظر من ثقب الباب" تموضع الذات الأنثى في فضاء الحجب والعزل. يصبح الجسد رهين منفى اسمه المنزل، وهذا المنفى الداخلي تتفتّح فيه كوّات لا للتحرّر، بل لتأكيد معنى القيد في مجال الممارسة يطوي الذات ومشاهداتها التي تتبقّع بالسلبي من حياة العائلة، وما ينعكس من أثرٍ يتموّج ناثراً العداء ومبدّدا بهجة الحكايات؛ فسحة الأجنحة تحتكّ بفكرة الخروج والنجاة "... تسلقتُ سلالم بيتِنا للأسفل، وكنتُ كلّ مرة أقع فيها أتسلّق من جديد، وتهوي معي حكايات كثيرة كانت لها أجنحة تحلّقُ بها لكنها ترتطم بساقي؛ ساقي المتدليّة من السّقفِ ذاتِهِ الذي يكلّمني بلكنةٍ جادّة كأنه ينهرني".
إن هذا الانحباس بشكله الصّلْد المتجهِّم له مفاعيله التي تتوقّف عندها الكاتبة من وحدة ورتابة وروتين وعزلة مميتة، لكنّ التناول يبدو على جدّة من ناحية العلاقة مع العالم. الجسد المحشور بين الجدران يغرق متخبّطاً يسعى لإقامة اتّصال متجاوز يعلو على الجسد نفسه وعلى الجدران. طوقُ النجاة يستمدّه من الصوت. الحاسة التي تقوم مقام الجسد وتعبّر عنه. يتعالى الصوت برزخاً أوّليّا للعبور وللعناق مع العالم الحي. الهويّة التي تحدّد الذات والمرآة التي تحكي وتشفّ " يا صديقي هذه أنا... أو صوتي يبدو لك الآن كحي شعبي مزدحم... صوتي المعلّق على حائط الذاكرة/ المنغمس في أعماق حكايةٍ قديمة/ .../ المغروس في صدر قصيدة كتبناها ونسيناها، المحفور في وجه أغنياتٍ قديمة كانت مرآةً لنا، كانت وجوهنا دون أن ندرك".
إن الوجود بأجمعه يتكثّف في الصوت ليغدو حامل الرغبة وموطن تحقّقِها "صوتي أنّةُ مفاصل تُعتصَر حين عناق". هذا الوعي بإرادة التجاوز والإلحاح عليه بوّابةً لـ "حياة بنكهة الصيف الحارقة" تهزم الستائر وتنداح منعجنةً برائحة الإسفلت والفضاء المفتوح.. هذا الوعي يرتطم بقفل الصمت يُحْكِمُهُ اليأس من التحوّل الطبيعي والحضور المكتمل "فمي المعلّق في وجه الريح قد جفّ أيضا/ كقميصي الربيعي العالق بجذع شجرة/ مشتْ الشجرة فجأة ونسيتْ أن تحمله".
الصوتُ في معادلته للوجود. الصوت في معادلته للكلمة؛ ينكسر لأن ثمّة ما هو أقوى؛ يقتل الفراشات ولا يكترث لموتها:
"أنا أبكي لأن ثغري لا يجيد النظر ولأن عيني اكتفت تماماً بالأحاديث العابرة".