كثيرا ما يجري ربط كلمة "مواطنة" بكلمة "حقوق"، فتجد أدبيات سياسية وقانونية تتحدث عن حقوق المواطنة، وتشرح وتفسر في أرضيتها وبنيتها التشريعية والقانونية، أو يجري الحديث عن المواطنة في القانون الدولي، وفي الاتفاقيات الدولية، وفي مقررات الأمم المتحدة، وغيرها.
وعند الحديث عن الأنظمة الديكتاتورية والدول غير الديموقراطية، يجري الحديث عن انتهاكات لحقوق المواطنة، أو انتهاك للقانون الدولي، أو مخالفة لاتفاقيات حقوق الإنسان.
لكن ما يغفله القانونيون والسياسيون أن المواطنة هي إحساس قبل أن تكون قانونا، وشعور قبل أن تكون اتفاقية، فأن تكون مواطناً يعني أن تحس بإنسانيتك، أن تشعر بالطمأنينة في المكان الذي تعيش فيه.
بهذا المعنى، يمكن لنا أن نحصل على تعريف جزئي للمواطنة، أو إضافة على التعاريف العلمية لها، ونعود لعبارة الإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ "ليس بلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك".
فإلى أي وطن ننتمي نحن المهاجرين؟ هل ننتمي لأوطاننا التي غادرناها للتو، ولم تغادرنا بعد؟ أم ننتمي للأوطان التي "حملتنا" ومنحتنا إحساسنا بالمواطنة؟ هل نكتفي بهذه الأوطان الجديدة أم نبقى معلقين بأوطاننا القديمة، ونبقى نحلم ونطالب ونعمل كي نحصل على مواطنتنا فيها؟
في الأدب والفن كثيراً ما تم استخدام مصطلح المواطن على أنه رقم مجرد بلا ملامح وبلا خصوصية (المواطن اكس)، وهو "برغي" في آلة اجتماعية ضخمة، ولكن الحقيقة هي العكس تماماً، فالمواطنة هي ما تمتعك بكل خصوصيتك، وهي ما تمنحك فرادتك وأهميتك، وتعطيك الفرصة كيلا تكون مجرد رقم بلا ملامح، وأن تمارس دورك بفعالية كاملة في مسار النوع البشري الذي تنتمي إليه، والوطن الذي اخترته أو اختارك، وهي ما تجعل المواطن مواطنا، أي المواطن ميم.
ما من مهاجر في العالم لم يعتقد أن هجرته مؤقتة، وأنه عائد قريباً، أياما، أو أسابيع أو أشهرا، وهذا ما جرى لنا نحن أبناء المنطقة العربية الذين هجرتهم الحروب وعسف الأنظمة، وقبل ذلك الفقر والبطالة وانسداد الأمل، وفقدان إحساس المواطنة، لا سيما من سورية والعراق وقبلها من مصر ودول المغرب العربي، كلنا هاجرنا هجرة مؤقتة -أو هكذا اعتقدنا- وشيئاً فشيئاً بدأنا نندمج في المكان الجديد، بدأنا نتلمس لذة أن تكون مواطناً، أن تكون إنساناً.
ربما هذا الإحساس هو ما يبقي كثيرين منّا معلقين بأوطانهم القديمة، حالمين بصنع تلك الخلطة التي تبدو مستحيلة: ذكرياتهم وتفاصيل حياتهم وأحبائهم، مع ذلك الإحساس العظيم بالمواطنة.
هل قلت مستحيلة؟ لا أظنها كذلك، فهي ممكنة ومتاحة، بل وحتمية، فمع كل ما جرى في المنطقة العربية من أهوال ومآسٍ، ومع كل هذه التضحيات التي تقدمها الشعوب العربية، لا بد من لحظة يقف فيها الجميع ليدركوا أن سبب كل ما نحن فيه، هو انعدام حس المواطنة، وغياب ثقافة المواطنة، ومنع المواطنين من المشاركة في الشؤون العامة، وأن الحل الوحيد لحرف مسار التاريخ عن الهاوية التي نمضي إليها، هو أن نعيد بناء الإنسان على أساس المواطنة الكاملة، ولا نحتاج لتحقيق ذلك أن نعيد اختراع العجلة، فالشعوب التي سبقتنا إلى تحقيق ذلك، دفعت أثمانا لا داعي لنعيد دفعها -وإن كنّا نفعل ذلك الآن- ولكن تجارب التاريخ تخبرنا بأن هذا المصير حتمي، وأن الأثمان التي تدفعها الشعوب العربية اليوم لها نتيجة واحدة، وهي حصول هذه الشعوب على حقوق مواطنتها كاملة غير منقوصة، وهذا سيحصل عاجلاً أو آجلاً.
بعض الأدبيات في الفكر السياسي صارت تبشر بنوع جديد من المواطنة، أو تعريف جديد لها يستعيد أقدم تعريفات المواطنة في تاريخ الفكر، ويتلخص بأن الإنسان في الحقيقة هو مواطن من العالم، هو فرد فعّال ضمن النوع الإنساني برمته، ولا فرق بين أن ينتمي لهذا البلد أو ذاك، وهذا التعريف هو ما يفسر شعورنا الملتبس نحن المهاجرين الجدد، وتشتت انتمائنا إلى بلداننا القديمة وإلى بلداننا الحديثة، واستعدادنا ربما للانتماء إلى بلد ثالث.
ربما يكون من أبسط حقوق المواطنة أن يكون لكل مواطن الحق في إيجاد تعريفه الخاص للمواطنة، وبالتالي يحق لي أن أقول: المواطنة هي الإنسانية، وانعدام إحساسك بمواطنتك لا ينتقص من إنسانيتك فقط، بل ينتقص من إنسانية كل البشر في كل مكان.