الأزمة ليست أزمة فكر، بل هي واقع نزع القناع عن أفكار تبيع الوهم لسنوات دون حياء، وعند أهل البادية مثل يقول: (قطع ظهر الجمل صيته)، أي أن سمعة الجمل كسفينة للصحراء، جعلت الكل يحمل عليه، ليزيدوا من هنا حملا، ومن هناك حملا آخر، ويأتي ثالث ورابع وخامس وعاشر وكلهم يقولون: هذا الحمل الإضافي لن يؤثر على الجمل، لتأتي دائماً النهاية المحتومة فيقال: (القشة التي قصمت ظهر البعير)، متناسين أن القشة هي فارق التوقيت البسيط والمؤلم في عدم مراعاة الرمق الأخير لطاقة الجمل في التحمل.
ليست الحكومة هذا الجمل، ولا الشعب هو هذا الجمل، بل الجمل يمثله الضمير العام لدى كل (المصلحين) في الحكومة والشعب الباحثين عن (فشة خلق) ولو في وجه الوزير، مما يرون ويسمعون هنا وهناك. الجمل هو الضمير العام وقد انفتح على الفضاء العالمي، فبضغطة زر واحدة يتابع كيف تحاسب الدول مسؤوليها، لترى المحاكمات لا تفرق بين وزير وغفير في سبيل مكتسبات الوطن التي تخص المواطنين، فالفساد يستغل المسافة ما بين مفردة الوطن والمواطن، وبقدر اتساع الهوة بينهما، يتألم الضمير العام حد الصراخ.
(نظافة اليد) يراها الضمير العام وقد انقلبت في فهم مسؤول ما لمجرد غسل اليدين قبل وبعد أكل (المفطحات) على واجب سعادته، (طموح وطني) يراه الضمير العام وقد جاء على شكل (غزال واحد وغزال اثنين)، (سمو الهمة) يراها الضمير العام وقد انقلبت إلى الحرص على النوع الممتاز من البشوت قبل لبسها في المحافل العامة، (الصلاح والتقوى) يراهما الضمير العام وقد تحولا إلى استعراض في مجال العبادات الخاصة بالفرد مع الله، مع إهمال حقيقي ومزر لمعنى الصلاح والتقوى في المعاملات بين المسؤول والناس وبين الناس مع بعضهم، فالزبيبة السوداء من كثرة السجود على رأس المسؤول لا تغني عن واقع المواطنين شيئا، المواطن في قضاء مصالحه الحكومية يريد موظفاً أمينا مخلصاً في عمله، المواطن عنده عطش حقيقي لرجال الصلاح والتقوى في معاملات الناس، فقد تعب الضمير العام من رياء الصلاح والتقوى في العبادات، التي تعني الفرد مع الله، ولكنها أبداً أبداً ليس لها علاقة في روابط الناس ببعضهم، ولهذا نجد حتى أعتى السجون مليئة مساجدها بالمصلين الركع السجود، حتى إمامهم في الصلاة يكون أحياناً من المساجين الحافظين لكتاب الله.
(يروي أحد علماء الأنسنة حكاية عن إمبراطور الصين القديم عندما زار قرية في أقصى الإمبراطورية وسأل أهلها عما يحتاجونه، وكانت الأمية والتخلف في كل مناحي الحياة متفشية في القرية، فقالوا له بصوت واحد: نريد فقط رجل دين يقوم بنا أمام الآلهة، فالأمطار تأخرت علينا كثيراً، وليس لنا أي مطالب أخرى)، كانت القرية بحاجة إلى مثقف من أبنائها يطلب من الإمبراطور كل الخدمات العامة لأهل قريته، فيطلب كل امتياز يراه في عاصمة الإمبراطورية من خدمات وتعليم ورفاه، في الهند أيضاً عانى المثقفون من جهلة قراهم الممانعين لكل تطوير وتنمية بدعوى العادة والدين، والمأساة أن يرى الضمير العام الوطن وقد تحول في نظر البعض إلى قرية تعج بصراخ فئام من الممانعين لا تتجاوز معاييرهم التنموية معايير حياتهم الخاصة بين أوهام السحر والعين يملؤونها بعلب العطارين والمياه الملوثة بغسول الناس أو النفث فيها.
الضمير العام يكبر وينضج، فقديماً كان بالإمكان إشغاله بما يبهر العين، أما الآن فقد أصبح ضميراً نقدياً يبحث عما ينفع لا ما يبهر، أصبح الضمير العام يملك أسناناً صغيرة في ثناياه يحاول بها قطع (اللهاية/المصاصة) التي كانت أمه تضعها في فمه دائماً، فيصدق أنها حلمة الثدي مليئة بالحليب. الضمير العام يكبر يوماً بعد يوم، واحتياجاته وإلحاحاته تزيد يوماً بعد يوم، الضمير العام حالة تنبأ بها غازي القصيبي في حياته مع الإدارة.
لا شيء يربك في هذا (الضمير العام) يمكن الربت على كتفه وطمأنته بتفعيل القوانين الموجودة على جميع المستويات، وتفعيل الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ممثلة في أهم بنودها في تفعيل هيئة مكافحة الفساد، مع مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في حماية النزاهة، وذلك بتفعيل نظام مؤسسات المجتمع المدني الذي ما زال يركض في حدود (جمعيات تحفيظ القرآن)، لكن الضمير العام يريد جمعيات بنفس العدد في كل منطقة ومحافظة لتخدم معايير الشفافية والنزاهة في الدوائر الحكومية. يجب أن يرى المواطن نفسه شريكاً في (أزمة الفكر) بدلاً من تركه هناك يعيش (أزمة الواقع)، ولن تكون تلك الشراكة ما لم ير الناس صوتهم في مؤسسات مجتمع مدني، تمثلهم وتعبر عن همومهم المتنوعة في كل المجالات، تحمل صوتهم، تستطيع أن تكون معادلاً موضوعياً لمشكلاتنا المعقدة ما بين (الفكر والواقع)، فأزمة الفكر لدى المستبصرين تتجسد في تنظير اشتراكي من فم رأسمالي، سيزداد الفكر والواقع تقلباً وتباعداً مع تقادم الزمن وتأجيل المبادرات ليعيد علينا التراجيديا في سؤال الخبز وجواب الكعك.