من أخطر الحاصل بين الناس الحوار بينهم عن العقائد، والأسوأ منه هو التفتيش المستميت عن ذلك.. الحوار المحمود والمفترض أن يكون بين هؤلاء الذين يدخلون في خصوصيات البشر، وبين من يواجهون، إنما ينبغي أن يكون عن إعلاء قيم الحق والعدل والعلم والتقدم والسلام، والعمل على رفعة شأن الوطن، وتحقيق الازدهار والتقدم للشعوب، ومفهوم المواطنة، وترسيخ مبادئ المواطنة، وحقوق المواطنة، ومسؤوليات المواطن، ومسؤوليات الغير لضمان حقوق المواطنة.
ليس من حق أحد أن يدعي أن الشريعة لا تعترف بالآخر، وأن الدولة الحديثة بمساواتها بين المواطنين، تتناقض مع الحكم الإسلامي، وأن أسس تعامل الحكومة الإسلامية مع رعاياها يختلف عن قواعد الحكم في العالم الحديث؛ الذي يتمتع الفرد تحت ظله بالحرية في المعتقد، وفي كل مناحي حياته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، الملبية لقواعد وتعاليم الدين.. إن مسؤوليات المواطن تجاه الوطن لا تختلف لكونه شافعيا أو حنبليا، أو سلفيا أو صوفيا، أو سنيا أو شيعيا، أو أشعريا أو غير ذلك، ولا تختلف باختلاف الموطن، فالمواطن عليه أن يحب وطنه، ويعمل من أجل تقدمه والدفاع عنه، وأن يمارس حقوقه المشروعة كمواطن كامل.
تحقيق العدل والمساواة هو من أهم مسؤوليات الدول لضمان حقوق المواطنة، ولتحقيق ذلك يجب عليها أن تضمن أن يكون دستورها ضامنا لحقوق الجميع، بصرف النظر عن كونهم أغلبية أو حتى أقلية، وتجريم التمييز بين المواطنين بكل الصور، وتطبيق القانون ـ الأمل ـ إذا ما ثبت وجود أدنى تمييز بينهم، والعمل على الوحدة الوطنية بين أطياف الشعب المختلفة من خلال برامج التعليم، ووسائل الإعلام، والبرامج الثقافية، والمؤتمرات، والندوات، وتشجيع العمل المشترك في مجال تنمية المجتمع بين منظمات المجتمع المدني؛ فالعمل المشترك هو من يبني التفاهم والرحمة بين الناس.
الأديان فضلا عن المذاهب والأفكار قد تتنوع في الوطن الواحد، وهذا عنصر ثراء، وغنى، وتمدن، ومن الخطأ الكبير أن نضع الوطن والمواطنة والوطنية في كفة، والدين في كفة أخرى، أو أن نوجب على الفرد أو الجماعة الاختيار بينهما؛ إنما هما في تماسك وتداخل، فنحن في المملكة مثلا، عربيو اللغة، إسلاميو العقيدة، وتتعدد عندنا دوائر الانتماءات، وتتكامل، وكل واحد فينا مأمور بالحفاظ على هذه الانتماءات، وأن يكون مخلصا لها، وبلادنا يجب أن تكون أنموذجا للتراكم والتداخل بين الثقافات، خالية من التصارع، والمناحرات المذهبية، والتنبيش عن المعتقدات الدينية.
لا بد أن يفهم مفتشو العقائد أن الاختلاف والتنوع بين الناس في الألسن والألوان بل والعقائد، إرادة ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، والآيات واضحة في الدعوة إلى التعارف من أجل تعمير الأرض؛ التي هي وطن الإنسان، والإنسان مأمور ببنائها وصيانتها، والإفادة من كل شيء فيها، مع الرفق بها.. إن عدم مراعاة منع التفتيش عن عقائد الناس سيجعلنا أمام ظاهرة لم تكن موجودة في القرون الماضية، وهي الشعور بالاغتراب عن الوطن الذي ولد فوق ترابه أو الذي اختار أن يقيم فيه، وبلا شك هناك عوامل مختلفة تؤدي إلى هذه المشاعر؛ منها: الإحساس بتمييز المجتمع بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس أو الوضع الاجتماعي، وظاهرة الاغتراب هذه تزداد بازدياد انقسام المجتمع إلى تيارات وأقليات، وانتشار روح القبلية والتعصب، وهذه الظاهرة محبطة؛ وتضعف الروح الوطنية التي بها يقوم المواطن بمسؤولياته، ويمارس حقوقه بإيجابية.